نص مسرحي: “مساء الورد” / تأليف: محمود أبو العباس

الشَّخصيات: الأب، الابن، الفتاة، الطِّفلة، ظل السَّجَّان، الظِّل 1، و الظِّل 2

(المكان بقايا من جدران توزَّعت في فضاء المسرح.. بعض أجزائها متآكل والآخر مثلوم.. جداران في العمق يشكِّلان أشبه بباب..وفي الوسط جدار يعلو ثلاثة أمتار وفي أعلاه شبَّاك صغير.. وفي مقدَّمة المسرح بعض الجدران القصيرة الَّتي ستستخدم كمقاعد).

(يمكن لمصمِّم الدِّيكور أن يستخدم هياكل خشبيَّة لتكوين المكان.. موزَّعة بجماليَّة رغم الخراب..الَّذي يبيِّن بشاعة وبرودة المكان وخواءه.. ستصبغ الجدران بلون رمادي وتكون شفَّافة فيها آثار حروق وحروف.. يمكن للمخرج استخدام بعض المشاهد بأسلوب الظِّل..على ألَّا يكثر منها حفاظًا على عدم الوقوع في التّكرار).

(عائلة صغيرة مؤلَّفة من أب وابن وفتاة وطفلة.. يقفون في بداية العرض في أعلى عمق المسرح وعند الباب المفترض تقريبًا.. يكوِّنون صورة فوتوغرافيَّة وهم يلجون هذا المكان المهجور.. وهو بقايا سجن كبير مقصوف بالقذائف.. الأب يحمل بيده حقيبة سفر كبيرة وأكياس مملوءة بالأقمشة وأشياء أخرى.. الفتاة تحمل على رأسها صرَّة ملابس كبيرة ربَّما هي أغطية تستخدم في العرض.. الابن يضع تحت أبطه لفَّة فراش من الإسفنج وحقيبة جهاز الحاسوب.. الطِّفلة بيدها دمية دب كبير قليلًا..وحقيبة صغيرة ملوَّنة..ليس ثمَّة مؤثِّر صوتي..هدوء يعم المكان…).

(الصُّورة الجامدة للعائلة.. توحي بالظِّلال لكن ما إن تقع عليها حزمة إضاءة حتَّى تتحرَّر وتتفكَّك).

الابن: نهرب من سجن إلى سجن؟

الأب: هذا ما تبقَّى من المدينة.. مدينةٌ أكلتها القذائف.. والرَّصاصُ ثَقبذاكرتها.. بالتَّأكيد.. ستبدِّل الوحشة ملامحها.

الفتاة: مكان خانق.. ليس فيه ما يشبه الحياة.

الأب: هذا هو الوجه الحقيقي للمدينة.. واجهات ملوَّنة مطرَّزة..وأعماق خراب.

(الطِّفلة تنزوي جانبًا.. وتُخرِج ملحفًا صغيرًا من كيس معها وتجلس في الزَّاوية.. تُخرِج شمعة لتوقدها).

الابن: ماذا تفعلين؟

الفتاة:اتركها.

الابن: أترك مَن؟ لا نعرف ما يخبِّئه لنا هذا المكان.. قد تكون شمعتها دليلًا على وجودنا.. فنكون هدفًا للقتل.

الفتاة: الطِّفلة تنزوي يدثِّرها الخوف.. ألا يكفي ما شاهدت عيناها من صور الخوف والقتل!

الابن: (يقترب من الأب) قضيتَ العمرمعنا.. وأنت تُدخلنا في نفق وتُخرِجنا من آخر.. ما الَّذي تنوي فعله بنا؟

الأب: اخرس.. اخرس.

(يتوجَّه الأب خائفًا للطِّفلة.. ثمَّ يرتد من صورة خلف الجدار..لشخص يتلوَّى ألمًا.. الصُّورة تمرُّ ثوانٍ قليلة.. يذهب ليختفي خلف أحد الجدران.. كأنَّه يهذي بكلام غير مفهوم.. يشدُّ انتباه الفتاة).

الفتاة: أبي.

الابن:اتركيه.. ليس غريبًا عليه أن ينزوي أو يتوارى.. لطالما يلوذ بنفسه ليَدرأ الخوف عنه قليلًا..وبعدها يعود إلينا بسلطته الَّتي أثقلت رؤوسنا.

الفتاة: المكان كأنَّه بيت أشباح.. لا أدري لماذا يوتِّرني هذا المكان.. جدرانه كأنَّها مُهيَّأة لتنقلب عليَّ.

الابن: هل أنتِ في حديقة؟ إنَّه بقايا سجن قديم.. مُتَّشح بآهات وصرخات.. ودماء وتعذيب.

الفتاة:اغلق فمك عن هذا الهراء.

الابن: (يلطم فمه) دكتاتوريَّة تحيط بي من كلِّ مكان.. أنتِ الأخرى تقمعينني.

الفتاة: بل أنتتثير الرُّعب فينا.. منفلت في كلِّ شيء.. اذهب وابحث عن أبيك المرعوب.

الابن: هو الَّذي استقدمنا لنحلَّ هنا في هذا البيت العتيد.

الفتاة: هل صحيح أنَّ هذا المكان بعيد عن المدينة.. وفيه قسط من الأمان؟

الابن: عن أيَّة مدينة تتحدَّثين..والمدينة أصبحت قشورًا.. وداخلها أُصيب بالعفن.. نحنُ أصبحنا مَهَرَة في هَدمِ مُدننا.

الفتاة: هل عندك مكان آخر يحمينا؟ قل لي.. أين نذهب والمدينة مسوَّرة بالخوف والقتل.

الابن: لا تذكري القتل..فقد يطلُّ أبوكِ برأسه ليلمحه فينا.. أششش.. اسكتي.

الفتاة: أبي..أبي.

الابن:انثلمت قطعة من لساني وأنا أقول.. دعونا نغادر المدينة كلّها..وأبوكِ مُسمَّر فيها حدَّ الصَّدأ.. كأنَّه يبحث عمَّن يخنقه.

الفتاة:اخرس.. أبي..أبي.

الأب: (يطل برأسه) ها.. هل ذهبوا؟

الفتاة: من هم يا أبي؟

الأب: الـ…

الفتاة: من؟

الأب: لا يستطيع لساني نطقها..كلمة تلجم حواسي وتسلب قدرتي على النُّطق.

الفتاة: تقصد القَتَلَة؟

الأب: لا.. لا تذكرينها.

الابن: قلنا لكِ لا تذكرينها.. ذكراها…

الفتاة: دع عنك هذا يا أبي.. وقل لي…

الابن: لا بل قل لي أنت.. هل هذا هو المكان الجنَّة الَّذي وعدتنا به؟

الأب: الأماكن الآمنة جنَّة.. حتَّى لو كانت حُطامًا.

الفتاة: وهل سنبقى طويلًا في هذا البيت المهدَّم.

الابن: بيت؟ أنتِ تلطِّفين الدَّمار.. قولي سجن.

الأب:اخرس.. (للفتاة) لا سبيل لي غير هذا.

الطِّفلة: (تشهق) ها أأأ…

الأب: (يركض باتِّجاه ابنته) ما بكِ!

الطِّفلة: (تقرأ آيات من القرآن الكريم.. لا نسمع منها غير كلمة بسم…).

الأب: تعالي (يمسك بيدها) هيَّا انهضي ولنغادر المكان.

الطِّفلة: (تترك يده بقوَّة) لا.. لا أريد..المكان جدرانه ضخمة.. يحمينا.

الفتاة: لا ندري ما تُخفي لنا هذه الجدران الضَّخمة من مصائب.. السُّجونُ دائمًا جدرانهاضخمة..جدرانها أضخم من جدران السَّكن.

الابن:إنَّهم يبدعون ويتفنَّنون في صناعة السُّجون.

الأب: أنتلا همَّ لك سوى تعليقات لا طعم فيها..أنتَ.. ماذا يدور في هذا الرَّأس الخاوي؟ بسببك تفرَّقت العائلة.

الابن: عن أيَّة عائلة تتحدَّث! عائلة يجمعها مكان واحد.. ولكنَّ القلوب متفرِّقة.

الأب: (يحمل عصا من الأرض) تحرَّك من هنا وإلَّا…

الفتاة: (تعترضه) أبي…

الابن: أمامكَ رأسي وامرح به.

الأب: سخيف.. تافه.

الابن: أصبح عليَّ الآن أن أغادر.. فجبلان لا يلتقيان.

الأب: أنتجبلٌ أنت! أنتكومة قمامة.

الابن: مِن مخلَّفاتك؟

الأب: فارق.. أيُّها…

الابن: القمامة.. أدري.. ما أنتفاعل بنا.

الطِّفلة: (تشهق.. وتتلعثم بالكلام) آآآآآآآآآآآآآ…

الابن: زهقت روح الطِّفلة من بشاعة هذا المكان.

الأب: أنتلا شأن لك بها.. إن أردت غادر أنتلوحدك.

الابن: حسنًا سأغادر..لقد أرَحتَني من همٍّ كبير (يخرج من المكان).

(الفتاة تتحرَّك مسرعة باتِّجاه الابن الَّذي خرج).

الأب: إلى أين؟

الفتاة: أخي…

الأب:اتركيه.. أم أنتِ الأخرى تريدين المغادرة؟

الفتاة: لا يا أبي.

الأب:إن شئتِ الحقي به.. ستجدين الاغتصاب قاطع للطَّريق..يحيلكِ نهشًا للسَّائبين.

الفتاة: أبي…

الأب:(يغيِّر نبرته)ستؤمِّنين على نفسكِ بين هذه الجدران الَّتي لا تليق بكِ.. فأنتِ كبرياء متنقِّل.

الفتاة: من أين يأتي الأمان في هذا المكان المعلَّق بالهواء!

الأب: هذا المكان.. لا يجرؤ أحد على الوصول إليه.. يخافه الجميع.

الفتاة: ونحن استثناءٌ عن البشر؟

(أثناء الحوارات القادمة.. يقوم الأب بفتح الحقيبة ليعلِّق ملابسه.. ويفرِّق أشياءه وكأنَّه يستقر نهائيًّا.. يحمل من الأرض منضدة صغيرة محطَّمة.. يصلح مساميرها بواسطة حجر يلتقطه من الأرض.. يفرش شرشفًا على المنضدة).

الأب: حين تكونين معنا ستشعرين أنَّكِ خلف باب مغلق وشبَّاك مغلق وجدران عصيَّة على اللُّصوص.. (يُخرِج من حقيبته قطعة قماش سوداء.. يعطيها للفتاة).. خذي.. غطِّي رأسكِ.

الفتاة: لماذا؟

الأب: بها ستشيخ ملامحكِ.. ويرتدُّ عنكِ الطَّامعون.

الفتاة: (تربطها بطريقة عشوائيَّة) حسنًا.. وسأرسم رأسي بالشَّيب.. لأبدو كما تشاء.

الأب: تستهزئين بي!

الفتاة: لا..أضحك على عمري الَّذي قضيته وأنا أتخفَّى فيه خلف خوفك.

الأب: ستتعلَّمين أنَّ الخوف نعمة.. لأنَّه يؤمِّن لكِ السَّلامة.. الشَّاي.. لابُدَّ من الشَّاي.. فبدونه كأنَّما جيوش تتدرَّب بالسِّلاح الحيِّ في رأسي.

(يُخرِج من الكيس سخَّان ماء صغير وطبَّاخ صغير بدائي فيوقده ويبدأ).

(في الجانب الآخر.. الطِّفلة تُخرِج من كيس يصدر صوتًا سدَّادة إحدى المشروبات الغازيَّة المعدنيَّة.. تخطِّط مستطيلًا بطبشور أو حجر صغير..وتلعب لعبة خاصَّة بها..تشدُّإليها أختها الفتاة.. الَّتي تقترب منها.. ثمَّ تشعل شمعة صغيرة).

الفتاة: إلى متى ستبقين في دائرة الصَّمت هذه؟

الطِّفلة: (تعطيها شمعة) معلِّمتنا كانت تقول..الشَّمعة تحترق لتنير الدَّرب للآخرين.. الشَّمعة.. تنير..للآخرين.

الفتاة: هذه الشَّمعة.. تحرق نفسها وتبكي.. حزينة مثلي.

الطِّفلة: (تُخرِج شمعة أكبر قليلًا).

الفتاة: وهذه أمُّها.

الطِّفلة: إذن الصَّغيرة تبكي من شدَّة الحزن على أمِّها.. الَّتي انطفأت مبكّرًا.

الفتاة: صعب..الفراق صعب.. أنا لا أعرف لماذا أحسست به مُذ سقتني أمّي حليبها.

الطِّفلة: أمّي.. (تحبس دمعة.. وتمسح عينها بقوَّة.. متظاهرة بالقوَّة).

الفتاة: لا تبكي.. كلّنا نغادر.. وكلّنا نبحث عن مأوى.. يتَّسع لحزن الفراق.. هذا الدُّب.. هو الآخرضحيَّة الفراق.. اختلفت عنده رائحة المكان.. المكان روائح..تشمّها فتسكنها الرُّوح..أو تشمّها فتشعر بحاجتك للمغادرة..(تضحك) لا فرق بين مكان نعيش فيه أو مكان يعيش فينا.. كلاهما..مهدَّم.. (الطِّفلة توقد شمعة جديدة) ما فائدة أن توقدي كل شموع الأرض والرُّوح مظلمة!

(ظل لرجل يمر عبر الجدار.. الفتاة لا تراه.. والطِّفلة تراه فتصاب بالخرس.. تطفئ الشَّمعة وتتلفَّع بقماشة وتنام).

(إظلام قليل).

(تثبت صورة الطِّفلة في المشهد المنتهي.. بإضاءة خفيفة.. ليكون ضمن جسد العرض.. ليبدأ آخر).

(تتقدَّم الفتاة).

الأب: نامت؟

الفتاة: من الرُّعب.. المكان لا نعرفه.. ونحن بحاجة للماء.. الماء..الماء.

الأب: (يحمل دلو بلاستك) سأجلب الماء.

الفتاة: هل تعرف المكان يا أبي؟

الأب: بيتي الثَّاني.

الفتاة: ما معنى بيتك.. هل لك صلة بهذا المكان؟

الأب: مكان عملي.

الفتاة: كنت تعمل في السِّجن؟

الأب: أجل.

الفتاة: ولِمَ لَمْ تخبرنا؟

الأب: حرصَتْ أمّكم على ألَّا تختلط صورة الأب..بصورة رجل السِّجن.

الفتاة: كنتَ سجَّانًا؟

الأب: ربَّما من غير المعقول.. أن يصدِّق أحد أنَّكِ ابنتي ولا تعرفين ما أعمل.. ولكنِّي لم أكن سجَّانًا..بل طبَّاخًا في السِّجن.. لم أعذِّب أحدًا.. لم أقيِّد أحدًا.. ولم ولم..كنت فقط حبيس أبخرة ودهون وسكاكين تقطِّع عمري..وأنا أقطِّع الخضار ليأكل ثمارها السَّجَّانون.. وفضلاتها السُّجناء.

الفتاة: ويح نفسي.. كيف قزَّمتَ حلمي بك.. فأنت العملاق في خيالي.. ها أنت تصغر لتكون كذبة.

الأب: لستُ كاذبًا.. بل مذنبًا.. فأنا أختفي خلف قناع أبوَّتكم..بينما تصليني صرخات المعذَّبين.

الفتاة: هل تعرفهم؟

الأب: مَن؟

الفتاة: الَّذين يُساقون إلى هنا.

الأب: لم ألتقِ بأحدٍ منهم.

الفتاة: بَشِع.

الأب: المكان؟

الفتاة: لا..أنت.

الأب: (يحاول المغادرة).

الفتاة: فماذا تُخفي غير هذا؟

الأب: (ينظر بصمت).

الفتاة: الآن عرفتُ سرَّ خوفك.

الأب: (في بقعة ضوء) الخوف.. مطرقة سندانها نحن.. يطرق علينا بقسوة.. يُقلِق هواجسنا وبقايا أحلامنا.. من شدَّة خوفي.. تعلَّقت بالخوف.. كنت في أحيانٍ كثيرة أبحث عنه.. أدمنته.. الخوف فيه السَّلامة.

(يخرج الأب لتدخل الفتاة نفس البقعة.. تنظر إلى الجانب الآخر.. فيه ظل كبير ممتد خلف الجدار الثَّاني فينساب صوت شخصيَّة الظِّل الأوَّل.. وهو شخصيَّة تعبِّر عن خيالات الموجودين.. هلاميَّة.. وغير طبيعيَّة.. تتشكَّل وفق الموقف.. ومثله الظِّل 2).

الظِّل 1: (يبكي.. ثمَّ يصمت) لا يُجدي البكاء.. فقد صرت طيفًا يلتصق بجدران (يبكي) دموع.. دموع.. ما أكثرها في هذا الكون.

الظِّل 2: منها تغطَّت الكرة الأرضيَّة بثُلثَي الماء.. أمَّا اليابسة فقد جفَّت من الحزن.

الظِّل 1: الحزن مَجلَبَةٌ للدُّموع.. جرَّبتُ أن أمدّ يدي أشاغب أحياء الأرض.. ربَّما تستفزّهم.. ولتنقذني من فَلتات الخيال.. ليعرفوا أنِّي ما عدت طيفًا يمر.. بل وجودًا.. تعالوا وتحسَّسوا جسدي.. مازال دافئ.. هل مرَّ عليكم طيف دافئ؟!

الظِّل 2: هل مرَّ عليكم طيف ضائع؟!

الفتاة: (ينتابها الرُّعب.. تذهب لتنزوي بعيدًا خلف إحدى الكتل) صوته.. كلماته.

(الظِّل 1 يقترب من الجانب الآخر من الكتلة.. تلمحه الفتاة فتصاب بالدَّهشة والخوف).

الفتاة: من أنتَ؟

الظِّل 1: بل من أنتِ؟

الفتاة: كأنَّ محيَّاك اختلط بالتُّراب.. ففقدتَ ملامحك.

الظِّل 1: الملامح يمحوها الزَّمن.. تمحوها ذاكرة تعطَّلت.. لكنَّ التُّراب كساء الملامح.. هو مفيد للتَّحنيط.

الفتاة: شكلك لا يختلف عن المحنَّطين.

الظِّل 1: محنَّطين.. بينما عيونكِ كان يغزوها الفرح حين تُقبلين عليَّ.

الفتاة: تعرفني؟

الظِّل 1: كيف لا.. وأنتِ تتجوَّلين في داخلي.. منذ زمن.

الفتاة: أيَّة قسوة جعلتك لا تختلف عن الحائط!

الظِّل 1: عرفتِني؟

الفتاة: صوتك حرَّك السَّنوات في داخلي.

الظِّل 1: وصوتكِ مازال فتيًّا.. هل تذكرين وردة الجوري؟

الفتاة: أنت.. أنت…

(يختفي الظِّل 1)

الفتاة: لا يحقُّ لك أن تقلِّب فيَّ المواجع وترحل.. صبر السِّنين أصبح غربالًا.. يُخرجني عن طوق عقلي.. فأظنُّه جنونًا.. أنتجرَّبتَ الألم ولكنَّك لم تجرِّب الفقد.. أحسُّ أنَّ الجنون هو حصيلتي من خيالك الَّذي ما فارق بصيرتي.. لماذا اختفيتَ وظهرت وها أنتتختفي مرَّة أخرى! قل لي كيف الخلاص ممَّن نحبّهم وهم يتسمَّرون في حدقات العيون..فترى كل ما حولك هُم.. هُم فيصيروا هَم..لم تقُل لي حين رحلت.. ولم تشفق على انتظاري.. السَّنوات جعلت منِّي شبحًا.. وأنت أصبحت ظلًّا..قُلتَ لي ستلتقي أرواحنا.. عصفت بي خدعتك.. فأردَتني مخبولة.. أسلِّم قلبي لكلِّ من يشبه ملامحك.. لا شيء هنا (تضرب صدرها) لا شيء.. لا…

الطِّفلة: (تصرخ) كفى.. كفّي عن هذا الصُّراخ.

الفتاة: ألم تنامي؟

الطِّفلة: لم أستطع.. خائفة.

الفتاة: وريثة أبيك.. هل رأيتِ ما رأيتُ؟

الطِّفلة: وجدتُكِ فقط تكلِّمين نفسكِ.

الفتاة: وهو.. صاحب القصيدة الَّتي رفعتني عن الأرض أشبار!

الطِّفلة: من هو؟

الفتاة: ذاك القائل…

(يأتي صوت الظِّل 1 من بعيد).

الظِّل 1: وكل قصيدة لا تحمل حروف اسمكِ ليس لها معنى.

الطِّفلة: سأوقد لكِ شمعة.. حتَّى تفيقي (توقد شمعة وتضعها على الأرض).

ظِل السَّجَّان: (من الخارج) مَن أوقد تلك الشَّمعة؟ قلنا مرارًا.. شمعة صغيرة تحرق غابات.. من جاء يعبث في مكاني؟ الضَّوء يُقلق روحي.

(الطِّفلة والفتاة.. يحضنان بعضهما خوفًا).

الفتاة: من يكون؟

الطِّفلة: ربَّما الظِّل الَّذي كنتِ تتغزَّلين فيه.

الفتاة:اسكتي.

الطِّفلة: أَسكت.

(تتجمَّد صورة الفتاة والطِّفلة في الزَّاوية).

(الإضاءة تنير جانبًا من الجدران..نجد ظل السَّجَّان وهو متَّكئ على الجدار..وممدَّد السَّاقين.. في جبهته ثقب تجمَّد عليه الدَّم.. يشبه الظِّل 1 في تفاصيله).

ظل السَّجَّان: (يشير لجبهته) هنا استقرَّت رصاصة.. في جبهتي.. ليس إلَّا هذا الثّقب.. لا يؤلمني.. ولكنَّه فتح بابًا في عقلي..فتحه على مصراعيه.. تحسَّسته مرَّة فوضعت إصبعي على هذا الثّقب.. توغَّل إصبعي.. وفتح طريقًا لكفِّي الَّتي أمسكت بدماغي.. عصَرتُه فكانت العصارة غباء.. لم أكن أعلم بعد كلِّ هذه التَّجربة العظيمة في الحياة.. (يضحك)أنَّ الغباء ينتعش في الرُّؤوس الخاوية.. والأرواحِ الخاوية.. والقلوب الَّتي لا تعرف الرَّحمة.

(يدخل الأب يحمل دلو الماء).

ظل السَّجَّان: أنتما زلت تتنزَّه بين الجدران.

الأب: من تكون؟

ظل السَّجَّان: نسيتني؟

الأب: لا أعرفك.. من أدخلك إلى هنا؟

ظل السَّجَّان: أقيم منذ زمن بعيد في هذا المكان.. كنتُ جسدًا يملأالأرض رعبًا والآن أصبحتُ روحًا مهلهلة.. تعرفُ معنى مُهلهلة؟ أدري بك تسأل دائمًا عن معاني الكلمات لأنَّك أكثرالنَّاس خوفًا من التَّحريف.. مهلهلة.. يعني ممزَّقة.

الأب: لا أعرفك.. وما تعمل في هذا المكان من سنين؟

ظل السَّجَّان: أُضيِّف القادمين.

الأب: أنتلماذا تتوارى في الظّلمة.. تعال واقترب لأرى وجهك.

ظل السَّجَّان: أخاف عليك من هيئتي.. إن ظهرت لك فستفزع.

الأب: هذا المكان أصبح دار سكني.. من جاء بك إليه؟

ظل السَّجَّان: أنتمن حشرك هنا؟

الأب: يمكنك أن تغادر.. وإلَّا…

ظل السَّجَّان: تضربني؟ أهون عليك!

(يظهر الظِّل..فينتاب الأب الرُّعب.. يذهب مسرعًا للفتاة والطِّفلة لينزوي معهما)

الفتاة: هل عرفته؟

الأب: كلَّا.

الطِّفلة: هذا كائن ثاني.. يباغتنا.

الأب: وأين الأوَّل؟

الطِّفلة: اختفى.

الفتاة: أشششششش.. يبدو أنَّ هذه الأرواح.. بدأت تملأ المكان.

الأب: لا تخافي.

الفتاة: لا تخافي؟ أنتيا أبي.. تنصحني بألَّا أخاف! بدأ المكان يضيق بنا.

الطِّفلة: ها قد عاد.

(يظهر الظِّل 1 وينظر لظلِّ السَّجَّان..يقترب.. يشير إليه فيأتي مسرعًا).

ظل السَّجَّان: كنتَ بإيماءة منِّي تحني رأسك في التُّراب.. والآن ظهرَتْ لك مخالب..(يعض على إصبعه) آخخخخخ.. زمن ابن كلب.. لا يرحم.

الظِّل 1: إيَّاك أن تقترب من هؤلاء.. لي فيهم صلة قُربى.

ظل السَّجَّان:إنشاء الله.

الظِّل 1: أردتك.. تبحث لهم عن وسيلة تُجنِّبهم دخول أحد غيرهم لهذاالمكان.

ظل السَّجَّان: تأمر.

الظِّل 1: هيَّا ولا تتعبني بلَغوِك الفارغ.. كأنَّك العجوز حين تذكريوم عرسها.

ظل السَّجَّان: لن أتكلَّم.

الظِّل 1: هيَّا وأحضر لنا ما نحتاج اللَّيلة..عندنا حفل شِعري.. سأُلقي قصيدة في البحر.. لعلَّ السَّمك ينهل من شِعري فأكون سيِّد قومي.. والكلينادي باسمي (يشير بيده كأنَّه هتاف).

ظل السَّجَّان:إنشاء الله.. (يختفي الظِّل 1 بينما السَّجَّان يعض على إصبعه) آخخخخخ.. زمن ابن كلب.. لا يرحم.. أبَعدَ كل هذا المجد.. يُمرِّغ رأسي بأسمال كلماته.

(صورة الفتاة والطِّفلة والأب.. جامدة).

ظل السَّجَّان: ماذا تأمر؟

الأب: فقط نريدك أن تغادر.

ظل السَّجَّان: وأين أذهب؟

الأب:أرض الله واسعة.

ظل السَّجَّان: أنا لا أحتاج إلى أرض.. يكفيني الهواء أستقرُّ فيه.. أنا أطير فوق..فوق.. ومشكلتي لا أستطيع أن أغادر المكان..فحين أخطو خارجه خطوة.. يضيق صدري.. (يظهر للأب).

الطِّفلة: ما هذا يا أبي؟ رجل مثقوب الرَّأس!

ظل السَّجَّان:إذن أنتم تروني.

الفتاة: من تكون؟

الأب: (خائف.. تنتابه رجفة تشبه الصَّرع).

الفتاة:استجمعقواك يا أبي.. تمالك نفسك.

ظل السَّجَّان: (يضحك طويلًا) عرفتك.. ملك الخوف.. هذا الرَّجل كان لا يرفع طرفه حتَّى لا ينظر لوجه أحد.. يظنُّ أنَّ من يراه يريد صفعه.. هو هكذا.

الأب: (يتمالك نفسه) ومن أين عرفتني؟

ظل السَّجَّان: وهل يخفى القمر.. أنتملك الخوف.. أرني يدك.. ألم تقطع أحد أصابعك.. حين هجموا عليَّ السُّجناء.

الأب: أنتالسَّجَّان إذن.. كنت أظنُّك تسكن هواجسي.. أو تقتسم معي بيتي..أو أنَّك كنت نسيج فراشي.. لم أعتقد أنَّك ستعود.. ولكنَّك في كلِّ مرَّة تظهر لي حُلمًا.. شبحًا.. أو يدًا تمتد لصفعوجهي.. كيف الخلاص منك؟ حتَّى الموت لم يُغيِّب حضورك من يوميَّاتي.

ظل السَّجَّان: أنا من كان يرسم بالدِّماء خرائطًا.

الأب: أنتكابوس من دماء نشمّها في شقوق هذا المكان.

ظل السَّجَّان: أنا من ناله خازوق السُّجناء حين هبّوا عليَّ.. إيغالًا بكسر كبريائي الَّتي لم أكُن أشتريها بفلس.

الأب: عن أيَّة كبرياء تتحدَّث وأنت تسحق هامات بقدميك.. هامات كبريائي.. هيَّا اذهب.. لا أريدك.. أنتترعب عائلتي هيَّا.

ظل السَّجَّان: أنت ما زلت غبيًّا.. هل يفعل عاقل ما فعلت؟ تأتي بأهلك إلى مكمن الهلاك!

الأب:امشِ.. فهذا المكان الموحش تبرَّأ منك.. كلُّ أماكن الموت صارت أطلالًا.. وما عادت دماء الأبرياء تعجن طين جدرانها.. امشِ.. (يرشُّ الأب السَّجَّان بالماء من دلوه).

ظل السَّجَّان: آخ.. الماء بارد.. يا جبان.

الأب:أنا…

ظل السَّجَّان:انظر لهذا الدَّلو المُغلق بخوفك.. لم تشعر به.

الأب: (يتقهقر خوفًا.. ويسقط على الأرض).

الفتاة: (تتقدَّم لتصد السَّجَّان) ماذا فعلت به!

ظل السَّجان: أوف.. أنا ضعيف أمام القوارير.. الجنس اللَّطيف.. يُغلِق عيني.

الفتاة: هيَّا غادر.. أين صاحبك؟

ظل السَّجَّان: مَن صاحبي؟ بعد التَّغيير.. صار هذا الصَّاحب سيِّدي.. هل تريدين أن أنادي عليه؟

الفتاة: ما اسمه؟

ظل السَّجَّان: حين دخلَ السِّجن نَسي أنَّ هناك عالم خارجي.. وأدعوكم أن تنسواأنتم أيضًا العالم الخارجي.. وحين نسي العالم..نسي اسمه.. والآن وقد أصبح ظلًّا يقبع في ركن من أركان هذه الجدرانالمحطَّمة.. صار جدارًا هو الآخر.. هكذا الدُّنيا.. حين تُنزل العالي إلى الأسفل تجرف معه كل الجراثيم والأوبئة والأحجار والكلاب السَّائبة وأحذية منسيَّة في البِرَك الآسنة.. عالم زفت.. اسأليني أنا..كنتُ بإشارة منِّي يصير هذا المكان صمتًا.. والآن وقد رفعوا إشارتي.. كثُرَت الإشارات فاحتار النَّاس إلى أيّهم يتَّجهون.. هو هكذا التَّخطيط أن يجعلونك تفكِّر فقط كيف تعيش.. كيف تأكل.. كيف تطعن غيرك وتتعشَّى بعظامه.. صحبة ذئب.. لا تدري متى يتمزَّز بك.. اسمعي.. حين تطلبين شيئًا عليكِ أن تناديني.

الفتاة: أين تسكن؟

ظل السَّجَّان: لا أدري.

الفتاة: كيف أناديك؟ ما اسمك؟

ظل السَّجَّان: لا أدري.. اسمي نسيته.. فحين تدخل هذا المكان حاكمًا أو محكومًا.. يُنتَزع منك شيئًا.. إن دخلت حاكمًا تُنتَزع من قلبك الرَّأفة.. وإن دخلت محكومًا.. لا تسأليني.. كاذب من قال لكِ يبقى في جسده ما يسمَّى عقل.. (يصدر صوت صفَّارة).

الجميع: ما هذا؟ ما هذا؟

الظِّل 1: صفَّارةُ السِّجنَ.. عاطلة.. ولكنَّها تُعلن الحذر حين يهرب أحد.

الفتاة: أنا…

(يتجمَّد الآخرون).

(في بقعة واحدة يقترب الظِّل 1 من الفتاة).

الظِّل 1: ممن تهربين؟

الفتاة: كيف تضخَّم جسمكَ بهذه الطَّريقة؟

الظِّل 1: سجنوني في زنزانةٍ انفراديَّة.. لا فتحة فيها.. إلَّا فتحة كانوا يطعمونني منها.. حتَّى لو لم أكن جائعًا.. آكل بالغصب.. ليس الهدف إشباعي..بل كان الهدف أن أصبح ضخمًا..وتضيق بي الزِّنزانة فأنفجر.. كنت أرفض الأكل الَّذي يسقط على الأرض ولا أستطيع التقاطه.. فتراكم..أصبح زبالة.. تفسَّخ.. فتهرَّأ جلدي من العفن.

الفتاة: كفى.. ما أبشع هذا!

الظِّل 1: هذا ما يسمّونه التَّعذيب بالسَّلَطة.

الفتاة: بماذا؟

الظِّل 1: التَّعذيب بـ…

الفتاة: كفى.. ورنين القصائد.. وشكواك الَّتي لم يزل طعمها في لساني.. ألم تُثِرْ رأفة سجَّانك.. ألم تقلْ له أنَّ بانتظارك امرأة تذوب من حبٍّ سيؤرِّقها في غيابي.. ألم تقلْ له أنَّك تضع في أذني وردة جوريفي كلِّ لقاء.. وتلقي عليَّ تحيَّات في المساء…

الظِّل 1: وفي الصَّباح.

الفتاة: حتَّى في الصَّباح.. تُشبِهه كثيرًا.

الظِّل 1:من؟

الفتاة: قلبي.

الظِّل 1:

من عطرها ازدان الوجودُ وانتشى

من وجهها ضوء القمر قد استحى

يا أجمل الكونْ الفسيحْ وصفوه

يا أجمل الأصواتلحنًا طربًا غنَّى لها

 

الفتاة: هو.. هذا الشِّعر الَّذي جعلني أهرول خلفه.

الظِّل 1: مَن؟

الفتاة: قلبي.

الظِّل 1: أنتِ تحبّين قلبكِ كثيرًا.

الفتاة: أحبُّه.. كان يقول لي وردة الجوري هذه بلون قلبكِ..أحبّها.. وأنا أقول له…

الظِّل 1:انثر ورودك فوق رأسي كما المطر.. خلِّ عنكَ خوفي.. وخذني إلى أيَّة جزيرة ستبحر إليها.. وتعال لملم حلمات الورد…

الفتاة: قطرات النَّدى…

الظِّل 1: هي.. هل ما زالت الحدائق تحلم بالنَّدى؟

الفتاة: بل ارتضت بماء ثقيل.. حتَّى تعيش.

الظِّل: ظلموا الورود.

الفتاة: وقتلوا فلَّاح الحديقة لأنَّه يجمع بين وردة الجوري والآس.. جمعذكر وأنثى.

الظِّل 1: هذه الدُّنيا مهزلة.

الفتاة: نحن المهزلة.. قل لي كيف أحضروك لهذا القبو؟

الظِّل 1: ممنوع تسريب المعلومات.. ولكن فداء لوردكِ سأروي لكِ.. أنا في أحد الأيَّام سقطت من جيب إحدى المظاهرات.. فوَجَدتُني..أُدعَسُ علىرقبتي.. وإذا بواحد من الشُّرطة.. قال لي اعترف..فصرخت..عاش النِّظام.. ركلني بقوَّة.. وصرخ هو الآخر.. اخرس.. كان الولد منشقًّا عنهم.. فصرخت.. يسقط النِّظام.

(يضحكان حتَّى تظلم البقعة..ينسحب الظِّل 1 مسرعًا.. تفتح الإضاءة فنجد الفتاة جامدة وفمها مازال فيه ضحكة عاصفة.. والطِّفلة توقد مجموعة من الشُّموع وتنثرها في المكان).

الأب: (يقترب منها) مع من تتحدَّثين؟

الفتاة: لا تزيد في جنوني.. قبل قليل كنت تتحدَّث أنتالآخر.. مع ذاك الَّذي كان سجَّانًا.

الطِّفلة: لا تُخيفوا شمعاتي.

الأب: لابُدَّ أنَّ الوهم قد بدأ يخترق النُّفوس.

الطِّفلة: أنتمن دعانا إلى هنا.

الأب: تريدون أن تبقوا أسرى أُناس لا نعرف فيهم من هو الصَّديق ومن هوالعدو! قلتُ لكم..الأمان مشروط بصدق النَّوايا.. بتآلف القلوب.. أنتم ضلوعي.. ولكنِّي في أحيان كثيرة أشعر أنَّها تنفرط فلا أجد ما يسند قلبي..(يصرخ) أنتم…

الطِّفلة: لا تصرخ.. أنتتُفزِع شمعاتي.

الأب: وأنتِ الأخرى جئتني بكلِّ هذه الشُّموع.. لتستدعي أرواحًا تطوف في هذا المكان.

الطِّفلة: إذا كنت تخاف منه.. فلماذا جئت بنا إلى هنا؟

الأب: أخاف عليكم.. الخوف ليس عيبًا.. تشعرين به لوحدكِ.. فحين تألفين الخوف.. معناها أنتِ في مأمن.. هذا السِّجن كانت العيون تتحاشى ملامسته بالنَّظر.. فلا أحد يقوى على اقترابه.. وهو الآن كذلك.. فحطامه يثير الرُّعب في النُّفوس.

(في الظِّل خلف الجدار..اثنان يقفان.. يصفع أحدهما الآخر..ويلكمان الواحد بالآخر).

(الأب ينتابه الرُّعب ويحضن الطِّفلة.. الفتاة تتحرَّر من جمودها لينزووا في جدران الأمام من المقاعد).

(في الزَّاوية المقابلة.. يدخل الابن.. يفتِّش عنهم.. التَّعب يهدّه.. فيجلس على الأرض.. يتَّكئ على جسم غريب على الأرض).

الابن: (يلقي بجهاز الكومبيوتر على الأرض ممتعضًا) أنتالآخر ما عدتَ تنفع.. كل شيء تعطَّل هنا.. العقول باتت لا تتلقَّف إلَّا التَّفاهة.. بي رغبة لأن أحطِّم هذه الجدران.

(من جدار من الجدران.. يخرج الظِّل 2 وهو رومانسي ثوري..أبيض.. نسمع صوته).

الظِّل 2: تمهَّل.. فكلُّ ما حولك يمكن إصلاحه.

الابن: (يفز) أبي…

الظِّل 2: هو الآخر يمكن إصلاحه.

الابن: أبي عجز العطَّار عن دوائه.. فالدَّهر أفسد فيه كل شيء.. من أنت؟

(يخرج الظِّل 2 من الحائط).

الابن: سأفترض أنِّي لم أرَك.. معي أب يخاف ظلّه.. وطفلة تشعل شموعها لتطرد الوحشة من المكان.. وأختي تمايزها الغضب عن كلِّ شاردة وواردة.. وهي تبحث عن حبٍّ ذهب أدراج الرِّياح.

الظَّل2: ما من شيء لا يمكن إصلاحه.. الفكر يقبل القسمة على اثنين وثلاثة وأربعة.

الابن: (يضحك)إيه.. كنت أبحث عنك لترشدني للفكر.. ما الَّذي جاء بك إلى هذا السِّجن؟

الظَّل2: لم أقل لهم شيئًا.. فقط أردت أن نتساوى كأسنان المشط.

الابن: فقط؟

الظِّل 2: وأن نمحو الجوع من الأرض.. فلا مالك ولا مملوك.

الابن: فقط؟

الظِّل 2: وقلت في محفلهم.. لماذا الشَّعب لا يمشي إلَّا بإشارات المرور والعقل يكفينا وقوده لنحيا دونإرشادات.

الابن: فقط؟

الظِّل 2: ولماذا سباق السَّيَّارات.. وما فائدة الملاكمة.. والدِّماء الَّتي تُسفك في الحروب.. ألا تكفينا.

الابن: فقط؟

الظِّل 2: ولماذا نحرق بيوتنا.. حين نزيل سجَّان؟

الابن: فقط؟

الظِّل 2: فقط.. هل أستحقُّ أنا كلَّ هذا العذاب.. وتقليم الأظافر وقلعها.. وتكميم العيون والأفواه.. أليس من العدل أن أعرف وجه مَنْ يحقِّق معي؟ لو أنَّه أرشدني إلى وجهه.. فإنِّي سأشرح له عن المدينة الَّتي أحلم بها.. هل التَّفكير بفضيلة المدينة يحتاج كل هذا القتل والموتوالدَّمار؟

الابن: أش.. اسكت.. لو يسمعك أبي..فإنَّه سيعيد بناء هذا السِّجن لتكون أوَّل نزلائه.

الظِّل 2: كتبتُ مذكَّراتي.. وسأفضح قسوةهؤلاء المساكين الَّذين يحقِّقون ويعذِّبون.. وأنا أُبرِّر لهم فعلتهم.. فالذَّنب ليس ذنبهم.. فهم أيضًا في حُكم المسجونين.. تُصدِّق.. كان أحدهم مرَّة.. يُعذِّبني.. ويبكي.

الابن: كفاك خرطًا.

الظِّل 2: لا أعرف إلى أيِّ قاموس تنتمي هذه الكلمة.. ولكنِّي.. أدعوك لإصلاح البيت من الدَّاخل.. وحتَّى لا نعود للمربَّع الأوَّل.. فإنَّ الاستقامة في عمليَّة استنباط الفكرة تأتي من خلال سسيولوجيَّة الانفتاح على الآخر.. فهمت؟

الابن: أجد من الضَّروري أن تذهب للحمَّام..لأنَّ الإمساك يسبِّب الهذيان.

الظِّل 2:إنَّ من جليَّات الأمور أن نمتثل لقول الحق.. فبه تحيا الأمم.. فالأمم المتَّحدة…

الابن: ألا تعتقد بأنَّك كثير الفلسفة؟ لغوكَ لوحده كفاية أن يضعك ليس فيالسِّجن..بل في زنزانة تنام فيها وأنت واقف.

الظَّل2: أنتعدواني.. وفيك جذور قمعيَّة..طبعًا أنتلا تعرف معنى قمعيَّة.. اسمع يا أستاذ.. القمعيَّة…

الابن: من تكون؟

الظِّل 2: روح هائمة..ظل يبحث عن أصل.. القمعيَّة يا سيِّد…

الابن: هكذا هم عديمي الأصل يتوارون خلف وجوه وأقنعة.

الظِّل 2:احترم نفسك..هكذا يبدأ الهدم.. حين تختلف القلوب..وتُقصى النَّوايا.. على فكرة.. أنتقمعي ابن قمعي ابن قمعي إلى سابع ظهر.

الابن: أنتقديم.. جدًّا.. تتحدَّث والتُّرابُ يتطاير من فمك.. كأنَّك أبي.

الظِّل 2: سيأتيك يوم تَحنُّ لهذه الجلسة معي.

الابن: أنا لا أطيق سماعك.. فكيف جلستك.

الظِّل 2: أنتماذا تفعل هنا؟

الابن: اشتقت لرؤيتك.

الظِّل 2: كذَّاب.

الابن:اغرب عنِّي.

الظِّل 2: لا تقربني.. فلن تجد ما تمسك.

(يقترب الابن من الظِّل 2 ويحاول مسكه.. ولكن يده تضرب الهواء).

الابن: أنتشبح؟ مثل الأفلام.. هل تشاهد أفلام رعب أنتالآخر؟

الظِّل 2: أنا عشت أفلام رعب حقيقيَّة.. ولكن فداءً لكم أنتم أهلي وناسي.

الابن: سيطردك أبي إن تقدَّمت خطوة باتِّجاهنا.. من أين خرجت؟

الظِّل 2: أنتم اقتحمتم خلوتي.

الابن: وهل ستعاقبنا؟

الظِّل 2: أنا الَّذي يكره العقوبات.. أنا لا أعاقب أحدًا.

الابن: طيِّب وكيف…

(يختفي الظِّل 2.. بينما الطِّفلة تشعل شموعًا وتزرعها في الأرض وتغنِّي).

الطِّفلة:افرحي يا أرض قد جاءكِ النُّور.. ستصير الشَّمعة ماءً وطيور

(يظهر له الأب).

الابن: أوه.. لا يختلف الظِّل عن الأصل.

الأب: عُدتْ؟

الابن: تريد منِّي أن أرجع؟

الأب: لا أعرف ما تريد أنت.. تبقى.. ترجع.

الابن: أريد أن أحيا دون ريب يعصف برأسي.. بعيدًا عن حضنك الَّذي تحوَّل جحيمًا.. بقيتُ أبحث عمَّا يقنعك بوجودي ابنًا لك.. لكنَّك تبحث عن وسائل لإلغاءِ أبوَّتك منِّي.

الأب: ما جنيته منك يكفي.. شذذتَ عن الطَّوق.. وسلبتني أمّك.. تلك الَّتي بفقدها ضاعت منِّي رجولتي وبقيتُ مسخًا.. كيف احتميت بها حين باغتوك بالرَّصاص!

الابن: هي الَّتي رمت بنفسها عليَّ.. لحمايتي.

الأب: وأنت لم تصدِّق.. استخدمتها درعًا.

الابن: كفاك تأنيبًا.

الأب: وكفاك غيًّا.. أنتمن سيكون من بعدي.. أيعقل هذا؟

الابن: اذهب وتزوَّج من أُخرى ليخلفك من هو أبرع منِّي في استمالتك.

الأب: عن أيَّة استمالة تتحدَّث! أنتلا تعرف قيمة الأبوَّة.. لأنَّك لم تجرِّبها.. الأبوَّة حمل ثقيل ينوء به من رقَّ قلبه وضعفت إرادته.. حين يُولد المرء يخلِّف بعده أبًا جبانًا.. يخاف على ابنه من ظلِّه.. لا تلتقي الأبوَّة والقسوة.. أسوأ ما في القلب.. أنَّه تجويف لا يتَّسع إلَّا للأبناء.. يظل يشتهي أن يحمل تراب الأرض الَّتي تدوسها أقدام الأبناء.

الأبن: كفاك نحيبًا.. منذ عرفتك وأنت تمارس طقوس الخوف علينا.. حتَّى جعلتنا خرق.. هل تسمح لك الأبوَّة مسخ أبنائك؟ وجعلهم لا يقوون على الكلام إلَّا بلسانك! ولا التَّفكير إلَّا بعقلك! ولا اختيار إلَّا اختيارك! انظر لنا.. كيف نبدو.. كأنَّنا جئنا هنا لندافع عن مكان هو مبعث خوفك.. منتهى السَّفالة أن أغريك في الابتعاد عنَّا.. لكنَّكَ تبرِّد النَّار الَّتي تحرقنا.. لنكون صالحين لكلِّ شيء.. حتَّى ولو للاستعمال مرَّة واحدة.. لا تسعني أرض.. حين أجد نفسي غير قادر على الدِّفاع عن نفسي.

الأب: والآن.. انظر إليَّ.. هل تجدني مانعًا لما تريد؟ ها أنتذهبت ورجعت.

الابن: الَّذي أرجعني إلى هنا ليس مسكنتك.. بل خوفي على أختيَّ.

الأب: شعور نبيل أن ترجع لحضن عائلتك.

الابن: لأختيَّ.. وليس أنت.

الأب: من وشَمَ قلبك بالقسوة؟! أنتتنظر إليَّ بعين عدو.. هل يستحق أب أثقله حب أبنائه كل هذه العداوة منكم؟!

الابن: (يذهب باتِّجاه أخته الفتاة) قولي ما عندكِ.. لا تجدين متَّسعًا أفضل من هذه السَّاعة للكشف والمصارحة.

الفتاة: ماذا أقول!

الابن: من دفع بالرَّجل الَّذي أحببتِ للسِّجن؟

الفتاة: خياله.

الابن: بل خيال أبي المريض.

الأب:اخرس!

الابن: مهنة تعلَّمناها منذ الصِّغر.. كنتَ ماهرًا في تعليمنا الخرس.

الفتاة:إذا صدقتْ المقولة في إدخالك حبيبي السِّجن فإنِّي…

الأب: صدَّقتي! تريدين أن تضعي يدكِ بيد هذا الجاحد؟

الفتاة: لماذا حرمتني من حقِّي في المحبَّة؟

الأب: وحقِّي في الحفاظعليكِ.. وعلى هذا (للابن).. وهذه (للطِّفلة).. أنتم تريدون منِّي أن أغادركم بأيَّة وسيلة.. وإذا غادرت.. من سيكفل عيشكم.. من…

الفتاة: حتَّى الدُّود الَّذي يعيش في الجحر مكفول عيشه.

الأب: لا أتكلَّم عن البطون.

الابن: عن ماذا إذن؟

الأب: عن… عن… ماذا بوسعي أن أقول.. جفَّ حلقي وابتلعتْ لساني الكلمات..ما أقسى العقاب الَّذي يناله المرء..حين يكون شاهده من بيته.. فالمثل يقول “إذا جاء شاهدك من بيتك حلَّ قتلك”.. إذن أنا غير صالح.. غدًا حين أموت.. ستجدون أنفسكم في عزلة.. وغضبي عليكم سيعاقبكم بالألم.. ستعرفون أنَّكم غرباء دوني.

الطِّفلة: نموت بعدك.. نموت من بعدك يا أبي.

الابن: نموت ها؟ هاهاها.. اذهبي وأكثري من شموع الجنائز.. اذهبي.. (يدفع الطِّفلة.. وتسقط أرضًا).

الأب: هل رأيت.. في وجودي لا تتحمَّل كلمة من طفلة وهي أختك.. كيف ستحتملها من فتاة تقرِّر لوحدها الهرب مع رجل لوَّثها.. ودفن سمعتي بالوحل..(الأب يرفع الطِّفلة من الأرض).

الابن: أنتِ.. اعترفي.

(يقترب من وجه الفتاة.. فترة صمت..يقترب الأب من الاثنين وهما يطيلان النَّظر إلى بعض).

الأب: ماذا تخفيان.

(الابن يبدأ بالنَّحيب بصوت عالٍ.. والفتاة تجرُّ قدميها بصعوبة لتتكوَّم أمام الطِّفلة الَّتي تأتي بقليل من الماء وتغسل وجهها).

الأب: (يحدِّث نفسه) ما السِّرُّ فيما حدث!(يقترب من الفتاة) ما السِّرُّ الَّذي حدث؟ (يقترب من الابن) ماذا تخفي من أسرارحدثت؟ ليس للصَّمت دواء إلَّا…

(يذهب للحقيبة ويخرج مسدَّسًا.. ويمسك بالفتاة من شعرها.. ويجرّها قرب الأخ.. ويجلس قربهم).

الأب: (بهمس) قولا لي ماذا؟ ماذا تخفيان؟

(الابن والفتاة ينظران لبعض).

الأب: (يشهر المسدَّس)إن لم تتكلَّما.. سأنتحر.

(الاثنان ينفجران ضاحكين).

الأب: ما بكما!

الابن: أعطني لُعبتي.. المسدَّس.

الفتاة: ندري بأنَّك لا تقوى على حمل سلاح.

الأب: ما سرُّ هذا الصَّمت؟ تكلَّمي.. لقد التصق دماغي بحذائي.

الفتاة: لطالما كان أخي..يغازل صديقتي.. ووجدته مرَّة…

الأب: كفى.. كفى.. أعرف البقيَّة.. كان مهووسًا بها.. لَمْ تحدِّثاني عمَّا حدث لكِ.. سرٌّ لوَّث عقلي وأصابني بالهلع.. مَن هذا الَّذي أوقفتِ العمرلأجله؟

الفتاة: لم يكن لي أن أراه.. أو ألتقي به.. غادرني متَّهمًا بقصائد حب اكتظت بها أوراقه.. فأورثني حزنًا فاق حزن هذا المكان.

الابن:لم يكن هناك ما يخيف.. إنَّها فتاة غيَّبها عشق لم يكتمل.

الأب: فأنتِ لم تلتقي به؟

الفتاة: ولم يلتقِ بي.. كنَّا أصواتًا تلتقي من خلف شبَّاك.

الابن: والآن هل أطفأتَ نار شكِّك؟ هيَّا فنحن نريد أن نرحل.. أنا وأختيَّ.

الفتاة: ولكنِّي وجدت ظلّه هنا.

الابن: اتركي أوهامكِ يا أختي.

الأب: (للطِّفلة) وأنتِ.. هل تغادرين معهم؟

الطِّفلة: لا.. سأبقى معك.

الابن: أنتِ يا أم الشُّموع.. لقد زرعتِ الأرض شموعًا.. لقد أنهيتِ مهمَّتكِ.. وعليكِ أن تلحقي بنا.

الطِّفلة: سأجعل الأرض ممرَّات شموع.. هل تكره النُّور؟

الابن:أكره أن تشعلينا يومًا بهذه الشُّموع.. ونحترق.. جنون متوارث.

(تتجمَّد العائلة على وضعها.. والإضاءة خافتة).

(في زاوية مقابلة سيكون هناك الظِّل 1 والظِّل 2 وظل السَّجَّان.. وهم يقفون في وضع غير طبيعي.. أي يقوم المخرج بتحريكهم وفق آليَّة تختلف عن الأداء الطَّبيعي).

الظِّل 1: ها نحن عدنا نسبح في هذا الفضاء الفسيح.. وعلينا أن نعملعلى الخلاص ممَّا وقع فيه هذا المكان من تجاوز.

ظل السَّجَّان: أنا أرى…

الظِّل 2: أنتلا ترى.. أنتتسمع.

ظل السَّجَّان: أنا أرى…

الظِّل 1: أنترأيت مرَّاتٍ فجعلتنا.. ذكرى.

الظِّل 2: همَّشتنا.. بعثرتنا مثل أوراق ذرتها الرِّياح.

الظِّل 1: بل لم تدع أحدًا يتذكَّرنا.. باختصار.. صمتك أبلغ.

ظل السَّجَّان: هذا اضطهاد.

الاثنان: (يضحكان) هاهاها.. من يتكلَّم عن الاضطهاد!

ظل السَّجَّان: أنا معكم.. وأكثركم حرصًا على البقاء.. إنَّ مغادرتي هذا السِّجن معناها تمزيق روحي.

الظِّل 1: قليل بحقِّك التَّمزيق.

الظِّل 2: لماذا نسعى لتغيير النَّاس؟ ولماذا وقفنا ضدّك؟ أليس من أجل أن نغيِّر كل شيء؟ حتَّى سلوكنا.. فالحضارة لا تسمح لنا بتمزيق إنسان.

الظِّل 1: إذا أردت أن تغرف من الحضارة.. فستجد أنَّ تاريخنا المليء بالقتل والحروب..هو دليلنا.. أيُّها المتحضِّر.

الظِّل 2: النِّقاش حين يخرج عن سياقِ الموضوعيَّة.. يصبح بلوى.

ظل السَّجَّان: العفو عمَّا سلف من الشِّيَم.

الظِّل 1: وأنت لماذا لم تعفُ؟

ظل السَّجَّان: القوانين.

الظِّل1: والآن؟

ظل السَّجَّان: في حالة كحالتنا.. ليس ما يؤسّس للقوانين.. نحن ظلال.. نعيش خارج جاذبيَّة الأشياء.. ولا قوانين تحكمنا.

الظِّل 1: فمن الَّذي جعلك تصدر قانونك.. وتطالب بطرد من تجاوز على هذاالمكان؟

الظِّل 2: يريدون المكان بوضع اليد.. وهذا من حقِّ المتشرِّد.. حين يجد له مأوى.. ليس من قانونٍ يحدُّ طلبات المشرَّدين.

الظِّل 1: هل سمعت؟

ظل السَّجَّان: صحيح.. فالأب كان يعمل في السِّجن.. لكنَّ ذاكرته شربها النِّسيان.

الظِّل1: وتمدَّد بها الخوف.

ظل السَّجَّان: إذن ما الحل؟

الظِّل 2: رأفةً بمن معه.. نمنحه فرصة لاختيار مكان مناسب.

ظل السَّجَّان: ما هذه العاطفة الجيَّاشة.. الَّتي لو وزَّعتها على البلدان لفاضت على القطب المتجمِّد!

الظِّل 1: أنا أجد أن ندفعهم للمغادرة.

ظل السَّجَّان: بالقوَّة.

الظِّل 2: أنت.. أنت.. أنتلا تتوب.. ها أنتترجع لضحالتك.

ظل السَّجَّان:اتركوني معهم ولو لدقيقة واحدة.

الاثنان:“انجب”.

(تجتمع مجموعة الظِّلال وتتوقَّف جامدة).

(العائلة تبدأ بفكِّ جمودها.. والطِّفلة تمد بطرق الشُّموع إلى الظِّلال).

الأب: ليس أمامنا إلَّا البقاء حيث نحن.

الابن: المكان خطر.. من الخارج مهدَّد بالدَّمار.. وهذه الظِّلال الَّتي ظهرت.. قد لعقتْ أدمغتنا بالجنون.

الفتاة: سيأتي.

الابن: (للفتاة) إلى ماذا تنظرين؟

الفتاة: المكان سيصبح أكثر ألفة.. حين يجيء.

الابن:إذن علينا مواجهتهم.

الأب: بالقوَّة.

الفتاة: بالحوار.. سيأتي ونتحاور.. محاورة شعريَّة..(تضحك.. تصمت).

الابن: بالقوَّة.. كما قال أبي.. لأوَّل مرَّة تصيبُ فيما تقول.

الأب: أنا ما قلت هذا إلَّا لأنِّي أعرف تفكيرك الوسخ.

الابن: أين أختي الصَّغيرة؟

(تتحرَّك المجموعة باتِّجاه الفتاة فتتجمَّد).

(الطِّفلة تتقدَّم.. فتجد الظِّلال وهم يرفعون لافتات بيضاء.. كل واحدلافتة).

الطِّفلة: ما هذا القماش.. أكفان؟

الظِّلال: لا.. بل نطالبكم بالرَّحيل.

الطِّفلة: لم تكتبوا شيئًا فيها.

الظِّلال: نريد أن تكتبوا أنتم.. ما يثير فزعكم.. فتغادرون.

الطِّفلة: بدل هذه الوقفة الخاسرة.. اذهبوا واغتسلوا لتتخلَّصوا من هذا التُّراب.

الظِّلال: لا نقوى على حمل الماء.

(الطِّفلة تذهب لحمل دلو الماء.. تقترب من الظِّلال الثَّلاثة.. ويجلسون صفًّا واحدًا.. بعد أن يلفّوا لافتاتهم فتكون مثل عصا غليظة.. تدلق عليهم الماء وتشير في الحوار لكلِّ واحد منهم).

الطِّفلة: سأغسل أرواحكم بهذا الماء الطَّاهر.. ربَّما تتطهَّر أرواحكم من دنسها.. من دنس الرُّعب..(للسَّجَّان) تنظف دماغك الغبي..(للظِّل 1) وتفتح لك نهرًا من الشِّعر.. (للظِّل 2) وربَّما ترتدُّ عن أفكارك الخياليَّة.. في أنَّ العالم سيزول بسبب غباء هذا الرَّجل.. ولأنَّ الآخر يكتب شِعرًا بلا روح.. وأنت سيهرب منك العالم بأكمله لأنَّ خطَّتك مرعبة.. خياليَّة.. غير مُصدَّقة.. وسينفضُّ كلُّ مَنْ حولك.

(تتَّضح ملامح الظِّلال الثَّلاثة.. مع موسيقى يستعرضون أنفسهم).

الظِّل 1: الآن وقد تميَّزتْ ملامحي فلابُدَّ أنَّها ستعرفني.

الظِّل 2: الآن وقد بان شكلي.. سيُعاد إلقاء القبض عليَّ.

ظل السَّجَّان: الآن وقد تنظَّف دماغي من وسخه.. فلابُدَّ من قرار.

(يحمل اللَّافتات.. العصا الغليظة.. ويستعد.. تتجمَّد صورة الظِّلال في مكانها).

(الطِّفلة تعود لشموعها.. يقترب الابن ليرفعها من المكان).

الابن: تعالي معي.. ما عاد البقاء مُغرٍ في هذا المكان.

الطِّفلة: لم يتبقَّ إلَّا مجموعة صغيرة ويُنار المكان بأكمله.

الابن: وما نفع كل هذه الشُّموع.

الطِّفلة: وفاءً لأمّي.. وهي تطرد الأرواح الشِّرّيرة وتستدعي أرواح الخير.

الابن: وما دخل أمّي بهذا.. ما تفعلين أنتِ؟ ولِمَ ذهبتِ لتغسلي غبار هؤلاء؟ هيَّا انهضي ولا تعصي أمري.

الفتاة:اتركها.. (تسحبها جانبًا)كيف بَدَتْ ملامحه؟

الطِّفلة: من؟

الفتاة: الرَّجل الَّذي غسلتِ وجهه من غبار السِّنين.

الطِّفلة: هم ثلاثة.

الابن: اتركيها.. فقد أثقلتِها بما لا تعرف.. انتبهي.. وجود أبي في هذا المكان مرهون بالطِّفلة.. إن خرجتْ.. سننجو من تهديد هذه الأشباح الَّتي رافقتنا.. حقيقة أو خيال لا أدري.

الفتاة: بل حقيقة.. أنا كلَّمته.

الطِّفلة: وأنا غسلتهم.

الابن: نحن نغسل خوفنا منهم.

(يمسك بيدي الفتاتين ويختبئ).

الظِّل 1: (يقترب من السَّجَّان) بماذا تفكِّر؟

ظل السَّجَّان: بقرار.. لابُدَّ منه.. لا تعتقد أنَّ التَّأخير بطردهم في صالحنا.

الظِّل 1: أنتالَّذي يجب أن تغادر بعد أن أثرت الرُّعب فيهم.

ظل السَّجَّان: الآن وقد اتَّضحت ملامحنا.. عاد لنا الحق في المكان.

الظِّل 1: أنتتُهلوس.

الظِّل 2: هذه المشكلة.. لا حوار.. ولا فهم للآخر.. هو سبب المآزق الَّتي قادتنا للتَّدهور والانحطاط.

(ظل السَّجَّان يقلِّب العصا الغليظة).

(الأب لوحده.. يقف وسط المسرح).

الأب: الوحدة قاتلة.. ما أتعس أن تجد نفسك معزولًا وحيدًا.. ما نفع الأماكن دون بشر! سأرحل.. لا.. الرَّحيل غير كاف لمن هو مثلي.. لا يستقيم عقلي دون أن أحرق المكان الَّذي عشت فيه مرعوبًا طوال عمري.. ربَّما هذا الحريق سيُطفئ لظى جوفي.. ولكن كلُّ هذه الشُّموع غير كافية.

(ظل السَّجَّان يصرخ من مكانه).

ظل السَّجَّان: مَن ثقب رأسي؟ مَن صفع كبريائي؟ من دمَّر صرحي؟ مَن؟ تجمَّعوا.. تجمَّعوا..تجمَّعوا.

الأب: وأنتشبح.. وأنت ظل.. وأنت مثقوب الرَّأس.. مازال شرّك يتطاير فوق الهامات.. كيف الخلاص منك.. كيف؟

ظل السَّجَّان: إلَّا نحن.. لا نغادر.. الكل مازال يرتجف من سماع بحَّة صوتي أو من كلمات لم ينطقها لساني.. أو أفكار تدور في عقلي.. أزرع الرُّعب فيهم كي أحصد بقائي هنا.

الأب: الآن عرفت لماذا نحرق المدن الَّتي نعيش فيها.. لأنَّكم مازلتم بين شقوقها تنمون وتكبرون.. تتوزَّعون.. تنشطرون.. تحاصروننا.. في كلِّ مكان.. تنتشرون في الهواء فيكون نصيبنا الاختناق.

ظل السَّجَّان: لا تقترب منِّي فقد ألوِّث عقلك بضربة منِّي.

الأب: وإن أردت قتلي.. فأنا فَرِحٌ بقتل خوفي.. ستسدي إليَّ بفضل كبير.. ذاك أنِّي أقتل الخوف في داخلي.. يعني أقتلك أنت في داخلي.

(يقترب الظِّل 1).

الظِّل 1: ها أنتقد عدت لسابق عهدك.

(يهجم على السَّجَّان ويباغته السَّجَّان بضربة ترميه خارج المسرح).

الظِّل2: لا أعتقد أنَّك شريك مناسب في العمل على تحرير الـ…

(السَّجَّان يباغته بضربة..ترميه خارج المسرح.. يستمر السَّجَّان كأنَّه يحارب الهواء).

(يدخل الابن والفتاة على الأب المتسمِّر ممَّا يشاهد).

الابن:ألم أقل لك.

الفتاة: هيَّا يا أبي ولنغادر.

الأب: إلى أين؟ فكل الدُّروب تؤدِّي إلى منفذ واحد هو الهلاك.. ليس لي إلَّا أن أُرجعكم لجسدي كي أبقى درعًا يحميكم.. ما نفع الأبوَّة إن لم تكنْ بيتًا يحمي الأبناء.. وماءً يروي قلوبًا ظمأى.. ما نفع أن أكون في هذه الدُّنيا ومازالت أذرعٌ تتلقَّفنا وتمزِّق فينا الصَّبر.. تقتل فينا المحبَّة وتدفعنا باتِّجاه العدم.. الكل يدور في مكانه بحثًا عن مكان يؤويه.. والمكانات أبعد ما تكون.. أبعد ما تكون.

(يهمُّ الجميع بجمع ما وضعوه في المسرح من أغراض بطريقة عشوائيَّة.. ويخرجون هاربين من المكان.. في نفس الصُّورة الأولى الَّتي شاهدناها في بداية العرض ولكنَّهم يهربون).

ظل السَّجَّان: (يبكي) إذا هرب الجميع.. فبمن ستتسلَّى قبضتي.

(ينخرط في البكاء.. ويتوارى.. بينما تعود الطِّفلة لإيقاد ما تبقَّى من شموعها.. وهي تغنِّي).

الطِّفلة:افرحي يا أرض قد جاءك النُّور.. شموعنا صارت ماء وطيور.

(يستمر ظل السَّجَّان بالبكاء وهو يخرج).

(بينما تتدفَّق أصوات الشَّخصيَّات الأخرى من الخارج.. حوارات متداخلة كانوا قد قالوها من قبل.. نميِّز بعضها والآخر يعصف بالمكان.. الأب هنا يقف مذهولًا.. مع تغيير الإضاءة وتصاعد الموسيقى.. إظلام ثم يعود الأب واقفًا لوحده).

الأب: (يردِّد الحوار كأنَّه يهذي) ها قد اكتمل عقد الشُّموع.. أكاليل منها لا تُطمئن النُّفوس الَّتي ودَّعتنا وسلبت منَّا العقل.. كيف تدخلون لزيارتي في هذا السِّجن؟ وقد مُنِعَتْ الزِّيارات.. صوركم تعلَّقت في الحائط.. هنا وهنا وهنا وهناك.. لا لا لا.. تعلَّقت بذاكرتي.. دمَّرت سكينتي.. واستحوذت على بقايا خوفي وجنوني.. ماذا أفعلْ.. هل أستأصل ذاكرتي؟ أم أحطِّم الجدران! من أين آتي بقوَّة.. هي معولي في إخفاء صوركم الَّتي تعذِّب ذاكرتي.. وتسكن في زوايا خوفي.. خوفي منكم.. من نفسي.. خوفي عليكم.. من أن تضيع الحياة من بين أيديكم وأنتم تشوِّهون كل ما فيها.. متى أستقر.. متى أنام.. السَّهر.. شدَّني إلى القبر.. وحيَّرني.. فلا قبر يرضى بي ليحتويني ويخلِّصني من صوركم الَّتي تطاردني.. ولا السَّهر يغادرني.. فأنام.. أنام.. أنام.

(ينهار على الأرض وبحركة قرفصاء..تعود له الأصوات.. تتصاعد.. مع الموسيقى والظَّلام).

نوفمبر 2011م

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت