نص مسرحي: “حلم رجل مضحك”/ تأليف: عائشة الحسني

مونودراما قصيرة

 

البوح الأول

 (يتجول صالح في المقهى بين الطاولات الفارغة)

في هذه الطاولة كان اصحاب يتحدثون عن ارتفاع البصل، (يضحك) وكان يبدو من حديثهم أن البصل حالة استثنائية لدرجة أن بعضهم اتهم شح المطر واتخذ منه حجة لارتفاع سعر البصل، في حين إن المتشددين جعلوا ارتفاع الأسعار ابتلاء من الله. (يتنقل إلى طاولة أخرى ) وهذه الطاولة كانت تسترق السمع إلى  أشخاص يتحدثون عن التجارة وتراكم الأموال، وعادة ما يطلبون قهوة ثقيلة كثقل أفكارهم (يتمسخر) أما تلك الطاولة فكان يلتف حولها مساكين يفتتحون نقاشهم بسورة المائدة، عادة ما يطلبون إناء واحدا للشاي الأحمر ويقتسمون الرشفات بينهم من نفس الكاس (يحدث الجمهور) وأنتم بالمناسبة ماذا تشربون؟ ام تفضلون الفرجة بالمجان؟ عندنا مباريات كرة قدم ومسلسلات، أنصحكم برسوم متحركة، وموائد مستديرة فارغة (يدخل الممثل في حوار مرتجل مع الجمهور). لا علينا حسب النشرة الجوية ضباب كثيف في الطبقات السفلى يحجب الرؤيا، ضباب غير محمل بأمطار، مصحوب بزخات من دموع الهموم والأحزان، في الأجواء العليا جو صحو، يسمح بالرقص وبالغناء (يبدأ بالغناء ويتحرك بين الطاولات ثم يتوقف وكأنه رأى طفلة صغيرة) اذهبي ايتها الصغيرة، سنك لا يسمح لك بارتياد المقاهي، كرسيك بالمدرسة او في حديقة الألعاب. (ينهرها) هيا اغربي عن وجهي، لا أطيق الاستجداء (يتجه نحو الطفلة المفترضة وهو يصيح إلى إن يتلاشى صوته مع الإضاءة) .

 

البوح الثاني

(صالح وهو ينظف أرضية المقهى)

أشعر آني أتلاشى، نعم أتلاشى، أتساقط كأوراق الخريف، روحي تهرب مني ثم تعود، أمسكها وأحكم عليها قبضتي، ولكنها لا تنفك تتسلل من بين أصابعي. آه إنها تضيع مني، أحاول جاهدا أن أتعرف على هذا الشعور الغريب الذي بدآ ينزع ملابسي ويلبسني سرابا غير حقيقيا، أصوات مبهمة تحاصر عقلي وكأن راسي في الماء، وطنين في أذني يسبب لي الخفقان طوال الوقت، متأكد أنها ليست بحمى. أي حمى يا هذا؟ لو كنت طريح الفراش من المرض لكان أهون من هذا الألم، جسدي أبواب مفتوحة على المارين إمامي ومن حولي وخلفي حتى أعتدت على وجودهم لكثرتهم، أراهم وكأنهم يحملون جنازة ما ويمشون بها في الليل، نحيب وهمسات. أطفال يسالون عن الفقيد وعن الوجهة، إلى أين، أحاول أن أجيبهم، لكن لغة الصمت تهزمني، الصمت مجرة تبحر فيها  الأفكار. إنهم يمرون الآن، لم أعد أكترث لوجودهم، أقعد على الطاولة و أسند راسي على النافذة أراقب، لكن لا أرى سوى الطريق ولا أسمع شيئا غير صوت تلك الطفلة التي تأتيني هنا كل يوم. ليثني أخلد إلى النوم باكرا اليوم ولن اشعر بشيء، ليتها نومة أبدبة (ينظر صالح إلى لاشيء) اخفظي صوتك أيتها الطفلة، لا أحب سماع كلمات الاستجداء .( يجمع أدوات تنظيف الأرضية وينسحب)

 

البوح الثالث

(صالح يدخل إلى المقهى ويبدأ بتنظيف الطاولات  شارد الذهن، يسقط الكوب من يديه)        

هذا الكوب اللعين حين سقط طير أفكاري (ينحني لجمع شتات الكوب) يا ترى أين تذهب الفكرة حين تسقط منا …(ثم يتحدث إلى الكوب المكسر) قل لي بربك، هل هذا العالم جدير بالتفكير و البحث عن الحلول من أجل العيش بكرامة وحرية و حب؟.. أه الحب….. ما هو الحب؟      (يراقص محبوبتة المفترضة) لقد تجولت في العديد من البلدان أفتش عنك لعلي أجد من طيفك بصيص أمل يبقيني معلقا على قيد الحياة .. أتعلمين ان هذا العالم يخدعنا جميعا؟ ستكتشفين ذلك ولو بعد حين، صدقيني يا حبيبتي لاشيء يجدي إلى الآن، سنتحول إلى بخار ذات يوم أو رماد أو تراب أو بقايا كوب تكسر…

(يترك حبيبته المفترضة  تنفلت من قبضته )

ما فائدة كل هذا ؟ لماذا أعيش و من أجل من؟  (ينظر إلى الكوب مرة أخرى ثم  يضعه على الطاولة) دعنا نتحدث وجها لوجه (يخرج مصباحا يضعه على الطاولة. ضوء المصباح موجه نحو وجهه. يضع ساعة على الطاولة شبيهة بساعة لعبة الشطرنج، كلما تغير الحوار يضغط عليها مؤثر صوتي للساعة تك تك تك) لماذا  يا هذا تحترق و تتلاشى؟ (يضغط على زر الساعة وكانه يجيب) من شدة احتراقي أشم عطبي؟ (يضغط على زر الساعة وكأنه يسال) لماذا تشعر أن كل شيء سوداوي؟ (يضغط على زر الساعة وكأنه يجيب) لان ما يلفني إلا الظلام، لا لون ولا مخرج (يأخذ  الكوب ثم يقلد صوت أخر كأنه صادر من الكوب) أنت مريض أو بك حمى؟ أتهزأ  بي يا هذا؟ أقول لك إني أحترق، روحي تهرب مني (رقصة يعبر فيها عن انه يحاول أن يمسك شيء ويهرب منه) أمسكها، أقبض عليها ولكن تتسلل من بين أصابعي وتهرب، أمسكها مرة أخرى، أحبسها لكنها تنفلت من قبضتي، تخرج، أبتلعها ولكنها تؤلم صدري، أشعر أنها ستشقه وتهرب؟ أفهمت قصدي ….ماذا يا لك من أحمق أقول لك أني متعب وأنت تقترح أن أشرب القهوة معك (كأنه يهدد الكوب) اسمعني، سأحطم ما تبقى فيك، ستتكسر في قبضتي إن لم تكف عن مضايقتي، أنا لست مريضا (يقف منتصب القامة) صحيح أني أرى السراب في كل شيء، لم يعد للناس قيمة في حياتي، حتى المارين تحت نافذتي كنت أتسلى بهم في وحشة الليل، لكنهم دائما ما يسألون ذات الأسئلة، إلى أين نحن ذاهبون؟ إلى أين يذهب الموتى؟ ما هو مصيرنا؟ وهناك فئة تافهة كأنهم بالنسبة إلى فلم مضحك، أسئلتهم مضحكة، كأن يقول أحدهم ماذا سأصبح في المستقبل؟ ماذا سأرتدي في المناسبة القادمة؟ ماذا تقول جارتي عني؟ ما نوع ساعتها وسيارتها؟ متى سأكون غنيا … سئمت (يتأفف) لا أشعر بهم الآن رغم أنهم موجودين حولي، يمرون دون أن يروا ظلي …أتعلم؟ حتى ظلي يهرب مني…أنا محط سخرية لنفسي (يضحك و يكسر ما تبقى من الكوب)  صدقني لقد أرحتك من صعوبة الموت، لقد مت وانتهيت، أما أنا فلا زلت معلقا بين السماء والموت، انتظر الفراغ (يجلس على الأرض ينظر إلى الفراغ ثم ينهض ويصيح) إلا تريدين ان تغربي عن وجهي. المكان لا يليق ببراءتك.

( ثم يخفت الضوء)

  

البوح الرابع

(يدخل صالح وهو في حالة غضب)

جارتي اللطيفة التي كانت تحضر لي الخبز وهو ساخن وتطعمني كأني أحد أبنائها، اليوم مررت جنبها وألقيت السلام، ولكنها أكملت طريقها كأنها لم تراني، استغربت في بادئ الأمر، لم تعد تراني (يمشي باتجاه الجارة) مررت بأمامها لوحت بيدي انتظرتها إن ترد أو تقل شيئا كل الذي فعلته (يحرك يديه في الهواء كأنه يريد أن يطرد ذبابة) اه جارتي يبدو أنه أصابك العمى (يفكر و كأنه تذكر شيئا) لنقل أن جارتي أصابها العمى لكن الناس التي كانت تمر ناحيتي و تبادلني السلام اليوم مروا جميعا دون أن يقولي لي شيئا رغم أني كنت اراهم… تذكرت شيئا، صديقي الذي أقول له بعض من مواقفي اليومية التافهة والمهمة نادرا، ذهبت إلى محله، بالمناسبة لديه محل صغير يبيع فيه الأغذية وما إلى ذلك وتمنيت لو يبيع لنا ما هو أجدر لنا من الأغذية لكن على اي حال، ذهبت إليه وقفت أمامه ألوح بيدي أناديه يا سالم يا سالم لم يسمعني ولم ينتبه إلي، جميعهم لا يروني ولا يحسون بوجودي، إنا أراهم واحس بهم (يضرب برجله الأرض يحضر كرسي و يجلس عليه ثم يقف ثم يجلس مرة أخرى يطأطأ راسه، يضحك وهو مقهور) لالا لقد خدعت نفسي مرة أخرى فأنا حين أكون منصفا رغم أن الحياة ليست منصفة، فأنا الذي تجاهلت وجودهم أنا من وجدت أن وجودهم في حياتي هراء ليس له قيمة، لأنني وبكل بساطة حين تمعنت فيهم وجدت أنهم منافقون وكاذبون، لقد تعلموا الكذب و أحبوه وعرفوا مواطن الجمال فيه، ربما بدء الأمر بريئا على سبيل المزاح والغنج والدعابة واللعب، وحقيقة الأمر أن البداية كانت بذرة، بذرة الكذب تسربت إلى قلوبهم و أعجبتهم. منذ عدة شهور وأنا …أنا لم أتغير، أبحث عن لحظة واحدة أتمسك من خلالها بالحياة، أو أشعر أن هناك شيئا حقيقا يستحق العيش أو شيئا ما يستحق الاهتمام، لكن لا شيء يستحق كلهم كاذبون (بصوت عالي) منافقون يدعون السعادة لكنهم مزيفون (يصمت ثم يقول بضجر) كل شيء مزيف (يقف على الكرسي) هذه الحياة لا تشبهني لا أحد هنا يشبهني حتى روحي لا تعرف هذا الجسد

 

البوح الخامس

 (يدخل صالح و على كتفه ربطة عنق يحاول إن يضعها على عنقه كانه يتهيا لمناسبة)

هذا هو اليوم الموعد سأنفذ ما أريده (يربط ربطة العنق ثم يتوقف فجأة كأنه تذكر شيئا) اه تلك الفتاة الصغيرة كيف نهرتها بتلك القوة، توقعتها تنخذل تنكسر، تكف عن الاستجداء، لكنها ذهبت لغيري تطلب المساعدة. (يقلد صوت الفتاة) أرجوك ساعدني أنا بحاجة إلى مساعدة، أمي تحتاج الدواء وقليلا من الماء، هي متعبة من طول الحياة (صوته مسجل وهو ينهرها) أغربي عن وجهي (صوت الفتاة  مسجل) أرجوك أنا خائفة، إن ماتت أمي أموت لموتها

(صالح يضحك بإستهزاء ) صدقيني الموت هو الراحة والعذاب الحقيقي من هذه الحياة

(صوت الفتاة) ساعدني أرجوك

(صالح ) أغربي عن وجهي

  

 البوح السادس

 ( يجلس صالح  برداء ابيض وقد وضع كرسيا على رأسه )

ما أجمل الحياة، ارى تلك الفتاة الجميلة هناك وهي تسرح شعرها وتبتسم. ما أجمل هذه الحياة، الجميع هنا سعيدين بحق… يا الهي هذا أنا ما أجملني، صغير ألعب بين أحضان أمي ويأخذني أبي بين يديه (يضحك) انظروا لقد كبرت وهم ينظروا إلي بفخر يااسلام كم أنا محظوظ…فجأة (صوت موسيقى تعبر عن وجود شر ما) ماذا هناك؟ ما هذا الذي يتسلل إلى قلوب الناس فيغيرها؟ يا الهي تلك الفتاة تنظر إليها فتاة أخرى وكانت تبتسم لها قبل أن يتسلل هذا الرعب الأسود إلى القلوب، ها هي الآن تحمل خنجرا أسودا تقطيع شعرها، وأنا لماذا البس الأسود و أبصق للحياة؟ … ما الذي تغير ما الذي يوجد هنا؟

 

البوح السابع

 (موسيقى  تخرج صالح من الحلم ثم يبحث عن شئ بين الطاولات والكراسي ثم يصرخ)

يا ترى أين ذهبت الفتاة، أعدك أني ساجدك وأعتذر لك عن غطرستي والعمى الذي أصابني فأنا أنت وأنت أنا، لو تدركي ما أدركته ولم تعلمي ما تعلمته، هذه الحياة يفسدها الحقد والحسد والنرجسية علينا أن نحب الناس، أن نفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم، وهم كذلك .. علينا طمس كل شر يتوقد شرا في قلب إنسان لنعيش الحياة بحب، انت المستقبل وانا الماضي. كفانا استجداء، امنا لن تموت، انتظري علي إن أصلح هذا المصباح  (يصعد فوق كرسي لإصلاح مصباح وهميعذرا يا فتاتي سأصلح ربطة عنقي قبل المصباح واعذريني إن لم أحسن ربطها (يأخذ ربطة العنق كحبل مشنفة. تختفي الاضاءة مع ارتفاع انينه وصوت اختناقه)

إظـــــــــــلام

(ترتفع أصوات مختلطة في الظلام) لا حول ولا قوة إلا بالله، الحمد لله على لطف الله، لو لم تخبرنا الفتاة الصغيرة لكان فارق الحياة (من بين الأصوات يرتفع صوت الفتاة) خذ، اشرب قليلا من الماء سيدي، لن أتخلى عنك، إنا متأكدة من انك كنت تنوي إصلاح المصباح لتعود الإضاءة إلى المقهى، كنت أراقبك من بعيد

( ترتفع الإضاءة في الصالة على الجمهور)

 

**عائشة الحسني ( مسقط- سلطنة عمان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت