قراءات في مسرح اللاتوقع الحركي القصير ( الجزء السابع والأخير)/ أ.د مجيد حميد الجبوري

قراءة نقدية لنموذج من عروض (مسرح اللاتوقع الحركي القصير)

قراءة في عرض مسرحية (خدملك)

 

لقراءة هذا العرض قراءة نقدية متفحصة؛ يحاول الباحث محاكاة أسلوب العرض المعتمد على طرح الأسئلة المتتالية عله يوفق في تقديم قراءة مناسبة له؛ والأسئلة هي:

هل هذا العرض هو مسرحية أملا مسرحية؟ هل هو دراما أم مونودراما؟ هل ما قاله الممثلون هو حوار أم مونولوج؟ هل جسد الممثلون شخصيات أملا شخصيات؟ هل طرح العرض صراعا دراميا، أم لم يقدم أي صراع؟؟ وأسئلة أخرى قد يثيرها هذا العرض.

إن الأسئلة السالفة الذكر وغيرها مـن الأسئلة؛ تتطلب التنويه الى أن هذا العرض – شأنه في ذلك شأن العروض الأخرى لهذا المسرح – طرح إشكاليات عـدة، وأولى هذه الإشكاليات تطالعنا بها بنية المسرحية وتصنيفها الدرامي أو المذهبي، فمن يتأمل النص يجد أنه أخذ من الانطباعية لحظتها العابرة؛ ومن التعبيرية لغتها التلغرافية، ومن السريالية فنطازيتها، ومن العبثية لعبها غير المجدي، ومن اللامعقول لا عقلانيته؛ ومن يتأمل العرض يجد أنه أخذ من (كوردن كريج) دُماه المارونيت، ومن (ستانسلافسكي) انفعالاته المنضبطة، ومن (فسفولد مايرهولد) انعكاساته الشرطية، ومن السينوغرافيا فضاءها الشامل؛ فهو عرض قدم مزيجا متجانسا من عناصر غير متجانسة أفلح المخرج في توحيدها بصيغة عرض متماسك، ونظرا لكثرة مصادر هذا العرض وتنوعها فأنه أثار الأسئلة التي أشرنا اليها أنفا؛ وأولى تلك الأسئلة : هل ما شاهدناه– في العرض – كان مسرحية أملا مسرحية؟ وبصيغة – أكثر تحديداً – هل كان مسرحية أم مسرحة؟ وللإجابة نقول: إن قراءة لنص المسرحية تشير الى أن النص قدم للقارئ مجموعة من الخواطر والهواجس والتأملات التي يفترض أنها دارت في مخيلة المؤلف / المخرج، فقام بمسرحتها، ولم يقم بكتابتها كنص مسرحي خالص، مراهناً على ما سيقترحه من مقترحات أثناء عمليات التدريب عليه، وهي مغامرة جريئة، وتجري بلا يستهانبه، فكيف بالإمكان تحويل الأفكار والخواطر والهواجس الى شخصيات حية، إذ أن شخصيات أي مسرحية يراها ويرسمها المؤلف في ذهنه قبل أن ينقلها على الورق، أي أن صورها وأشكالها وسلوكياتها وحتى ردود أفعالها تكون حاضرة في ذهن المؤلف قبل أن ترى النور على الورق؛ أما الخواطر والهواجس والتأملات فهي مجردات لا صور محددة لها، وأي تصوير لها يحتاج الى صانع ماهر يحيلها من التجريد الى التجسيد؛ وعلى الرغم من أن المسرحة تعد تصنيعاً؛ غير أن (ماهراً) كان ماهـراً في تصنيعه؛ وآية مهارته تتجلى في إلماحة إبداعية أخرى تتمثل بنجاحه في إحالة المونودراما الى دراما؛ فالمدقق في النص وكذا العرض سيجد نفسه أمام مونودراما توزعت على أصوات ثلاثة بدلاً من أن تكون صوتاً واحداً، وهذا ما يوحي الى أن العرض قدم شخصية منشطرة أو متشظية الى ثلاثة شظايا؛ ومن المفيد هنا التذكير أن المونودراما تقدم شخصية تجسد عدة شخصيات، في حين أن هذا العرض قدم ثلاثة شخصيات تجسد شخصية واحدة، وهذا ما يقود القراءة الى الإجابة على التساؤل القائل: هل أن ما قدمه العرض كان شخصيات أملا شخصيات؟ فالملاحظ أن المخرج عمد الى تقديم شخصياته بمظهر خارجي واحد؛ فهي ترتدي أزياء مهرجين بخطوطو دوائر سوداء وبيضاء تذكر بالصور الفوتوغرافية التي كانت تؤخذ باللونين الأسود والأبيض في زمن مضى، أي أنها شخصيات – إن كانت شخصيات – تم استدعاؤها من زمن الأسود والأبيض، وقد فاتها قطار الزمن الذي مر سريعاً في بداية العرض ونهايته ولم تستطع اللحاق به، وأن هذه الشخصيات التي فاتها قطار الزمن هي في حقيقتها شظايا ثلاث لشخصية واحدة مزقها الزمن، وهذا ما يؤكده دليل العرض الذي يشير الى أن الشخصيات هي (لا أحـد1) و(لا أحد2) و(لا أحد3)(1)، فالشخصيات جميعها هي لا أحد، فهل يعني ذلك أن صناع العرض قدموا في عرضهم لا شخصيات على أنها شخصيات؟ أم أن صناع العرض أرادوا الإشارة الى دلالة أخرى تقع خارج سياق العرض؟ هذا ما ستجيب عنه إشكالية الواقع المقابلة لإشكالية العرض، والتي سيتم ذكرها لاحقا.

لا يتوفر وصف.

لنعـد الى الأسئلة المثارة في مقدمة هذه القراءة، وتحديدا الى التساؤل الذي يتعلق بالحوار وهو: هل أن ما قاله الممثلون كان حديثاً عابراً، أم حواراً (ديالوج)، أم صوتاً واحدا (مونولوج)؟ إن الشخصية في هذا العرض كل ما قالت كلاماً ما؛ فأن الشخصية الأخرى تكمل الكلام الذي بدأته الأولى ولا تتحاور معها؛ بمعنى أنها لا تتحاور مع الشخصية الأولى بل تكمل جملتها أو عبارتها، لتأتي الشخصية الثالثة وتكمل ما قالته الثانية؛ غير أن هذا التوالي لا يأتي بصيغة التواصل مع الأخر؛ بل يأتي بصيغة الجمل المبتورة والعبارات التلغرافية التي تؤشر أكثر مما تبين، وتومئ أكثر مما توضح، وتوحي أكثر مما تشخص، وتضمر أكثر مما تعلن.

من ناحية أخرى فأن من البديهيات الدراسية للدراما هي: أن الدراما بلا صراع لا تعـد دراما؛ وهذا العرض لم يقدم صراعا خارجيا تتقاطع فيه الإرادات بشكل واضح، ولم يكشف عن صراعٍ داخلي مع النفس تتقاطع فيه رغبات الشخصية مع إرادتها أو مع مشاعرها؛ ففي داخل المسرحية لا تجد صراعا؛ بل أن الصراع كان صراعا بين العرض ومتلقيه، صراعا بين العرض والواقع الذي عُرض فيه؛ إذ أحال هذا العرض الإشكالي الصراع الى الواقع الإشكالي الذي يعيشه المجتمع الآن، والذي كان أحد نتائجه هذا العرض الإشكالي.

وهنا تصل القراءة الى الإشكالية الواقعية التي قابلها العرض وحاورها أيماءً وأيحاءً وتلميحاً، فالواقع اليوم هو واقع إشكالي بسبب الظـروف الاستثنائية والحرجة التي يعيشها البلد، وهي ظروف مشحونة بأجواء تشيع فيها مفاهيـم الإرهاب، الطائفية، المناطقية، العشائرية، المحاصصة، التحزب، التكتلات، التحالفات، وغيرها من المفاهيم التي هيمنت بعد التغيير؛ وهو واقع لا أمن فيه ولا خدمات، ولا اقتصاد واضح الهوية، إفلاس في كل شيء، إفلاس في الأخلاق، إفلاس في الضمائر، إفلاس في ميزانيات المحافظات والوزرات؛ فكل تلك الجهات تشكو من قلة التخصيصات ؛ دعوات كثيـرة للإصلاح ولا أصلاح، دعوات لمحاربة الطائفية والطائفية تتسلل في كل مكان، دعوات لعراق موحد وهنا كمن يعمد الى تشظية العراق ويخطط لجعله أشلاء متناثرة، عمل دائم على وفق مبدأ المحاصصة، عمل دائم على وفق مبدأ التحزب واستحقاقاته ؛ والمناطقية وشرعتها، والتكتلية وحصصها، فالانتماء للوطن أصبح نادرا؛ ومن يعمل بالضمير النزيه أصبح مصدر اللريبة، ومثارا للشكوك، والسائد هو التنقل بين الولاءات بحسبما توفره من مكاسب، الكل ينادي بأن العراق أمة جميلة بتنوعها الفسيفسائي، الكل يدعو الى مجتمع متوحد الأعراق والأطياف والمذاهب، الكل يدعو الى شعب متماسك، لكن القول والدعوات شيء، وما يجري على أرض الواقع شيء أخر، فنتيجة التشتت وتعدد الولاءات ضاعت الهوية وضاعت الخصوصية، وأصبح المواطن لا أحد، وهذا ما أشار إليه العرض، وهذا ما أوحت به شخصيات المسرحية،فـ (لا أحـد) الواقعي – وبخاصة المثقف – أصبح مشتتا بين شراء قنينة الغاز وشراء موسوعة لالاند الفلسفية، وبين حل شفرة الماء الملوث وبين حل شفرة دافنشي، وأصبح متشظيا بين نور العلم الساطع وانطفاء الكهرباء  الدائم، وبين رغبته الجامحة لزرع الزهور والتمتع برؤيتها، وبين أطنان الأزبال المنتشرة في كل مكان، مشتت بين اشتياقه لسماع صوت فيروز و بين اضطراره لسماع أصوات نشاز تعجبها الفضائيات والأقراص المدمجة، مشتت بلم تشظٍ بين تطلعه نحو إبداع وآفاق تحلق في فضاء المعرفة والجمال، وبين دبيب يجتاح نفسه ويجعلها تشك بكل شيء ولا تثق بأي شيء(2)، لذا فأن (لا أحد) الواقعي يحاول أن (يقلع)(3)، ولكن الى أين؟ هل يقلع نحو ما هو مجهول؟ أم يقلع نحو ما هو معلوم؟ أم يقلع عن عادات وسلوكيات هيمنت بعد التغيير؟ أم يقلع نحو غدٍأ فضل؟ هذه هي الأسئلة التي أراد أن يبثها العرض، وهذه هي الإشكالية  التي حاول العرض الإيحاء بها، وهي تنحصر بين خيارين أما الإقلاع نحو فضاء لامتناهي، أو اللجوء الى دبيب مستمر لا حدود له، وللمتلقي حرية الاختيار.

ونافلة القول: أن عرض (خدملك)  هو عرض مكثف ومختزل أقصى حدود التكثيف والاختزال، وهو عرض أعتمد الإيقاع السريع المنضبط، سواء كان هذا الإيقاع على مستوى الحركة أو الصوت او التعبير أو الإيماء، إيقاع سريع جاء بسرعة البرق، ولم يترك للمتلقي أي فرصة للتأمل ولا حتى للتنفس، كل هذا جاء وسط فضاء سينوغرافي واسع، وهي إشكالية أخرى يطرحها العرض حين يجعل المتلقي بين جو خانق وفضاء واسع، أنه عرض مفتوح قابل لقراءات متعددة.

هوامش

  1. يراجع دليل مسرحية خدملك (الفولدر).
  2. الدبيب والشك هو ما تشعر به شخصيات مسرحية (خدملك).
  3. هو أحد الحلول التي يقترحها نص مسرحية خدملك.

 

** أ.د مجيد حميد الجبوري (البصرة 19/5/2022)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت