عزلة العمل المسرحي من زاوية النظر  الدراماتورجية/ يوسف البحري

هذا البحث قدم ضمن فعاليات الندوة الفكرية حول موضوع: “دور المسرح في ظل الأزمات العربية الراهنة” بالدورة 29 لمهرجان الأردن المسرحي (6 ـ 14 نوفمبر 2022)، وذلك ضمن اليوم الثاني بالجلسة الثانية ليوم الأربعاء 09 نوفمبر 2022، 

                                                               لا يتوفر وصف.

****************

 1  لماذا نحتاج إلى الدراماتورجيا في صون المسرحية من العزلة عن الجمهور ؟

إن الخطر الذي يتهدد أية مسرحية هو أن يحس الجمهور بالملل ويفقد الرغبة في المتابعة أو إنه يغادر الصالة المسرحية قبل نهاية العرض أو أنه ينام على الكراسي، أثناء العرض .

فإن كان عدد من الحاضرين في العرض قد جاؤوا من باب مجاملة أصحاب العرض فإنهم يستيقظون من سنة من النوم أخذتهم فيصفقون في آخر العرض رفعا للحرج لا غير. و قد ينغمس الجمهور في الحديث فيما بينه بلامبالاة بالعرض أو إن تركيزه قد ينتقل إلى الهواتف الجوالة و شاشاتها فتنخفض الأبصار و يتجه التركيز من العين و الأذن إلى الأصابع و التكتيل الالكتروني .

و تحدق كل تلك الأخطار بأكثر شيء في المسرح هشاشة و أهمية في الوقت ذاته و هو الاتصال المسرحي. و الاتصال المسرحي عند علماء المسرح هو التفاعل الحسي و الفكري بين الخشبة و الجمهور .

و يعدّ هذا الأمر من المواضيع الرئيسية التي تشملها الدراماتورجيا و مثلما هو الحال في علوم الطب لا يوجد المشكل في مظاهر المرض و إنما في أسبابه.

و هو ما يعني أن الخلل في الاتصال المسرحي بين الخشبة و الجمهور لا يحدث فجأة في الصالة المسرحية بل إنه خلل حاصل منذ الكتابة بمراحلها منذ النص المكتوب إلى غاية نص الخشبة. إن المشكل في المسرح ليس حضور عدد قليل لمشاهدة العرض المسرحي. قد يكون ذلك مشكلا و قد لا يكون مشكلا. لكن المسرحية تكون في وضع سيء جدا عندما يدخل عدد قليل أو كثير من المتفرجين ثم يغادر أغلبهم الصالة المسرحية أثناء العرض .

فعدم حضور الجمهور أصلا شيء و مغادرة الجمهور بعد حضوره شيء آخر أشدّ وطأة. كتب المسرحي محمد إدريس عن العرض الأول لمسرحية ” العرس ” سنة 1976 بقاعة ” البلماريوم ”  تونس و هي غير مهيأة في الأصل للمسرح على النحو  التالي: ” لأول مرة في تونس رواية تتقدم في علاقة جديدة و مقصودة مع الجمهور”.

في صالة ما تكساب شيء من التياترو كان قربها من المسرح البلدي في صالة الناس يلقاو أرواحهم مقابلين بعضهم العين في العين، و الرواية بيناتهم كيف لعبة الشطرنج كل قطعة تتحرك على سبب، إيلاما ظهر وقتها، يبات بعد شوية و إلا في الآخر.

الناس تتفرج، النفس متاعهم قريب لنفس الممثل و الممثلة

الناس تتفرج قدامهم كبّة تتخبّل و تتسرّح بالمكشوف .

فرجة في وقتها ما خذاتش حقها ، قليل اللي فطن بـ ” العرس ” و قليل اللي تمتع بيها.

ثمة حارة هاذوكة اللي تلقاهم في كل مناسبة ، يلوّجو على فرجة تبرّدلهم غليلهم  و تخرجهم من المألوف ( أنظر مقدمة نص ” العرس ” سلسلة ” ربيع المسرح ” دار سنمار للنشر تونس 1985 ص 8)

لقد أوردنا  هذا المثال لنتبين أن قلة حضور الجمهور لا يعني بالضرورة وجود خلل جسيم في كتابة العرض المسرحي و لا يعني بالضرورة انفصاله و عزلته عن المتلقي من باب الضعف الدراماتورجي و قلة الحيلة الفكرية والفنية وإنما يعني أحيانا تقدم العمل المسرحي خطوة على ما تعود عليه الجمهور، فأسلوب صنع مسرحية  ” العرس ” مأخوذة عن ” عرس البرجوازيين الصغار ” ليرتولد بريشت هو أسلوب جديد حينها سنة 1976 لكنه أصبح بعد ذلك هو الأسلوب الطاغي في المسرح التونسي و جلب إليه عبر السنوات جمهورا غفيرا. ثم أخذ في الانتشار عربيا منذ نهاية الثمانينات حتى أصبح الأنموذج الأكثر تأثيرا في كامل المسرح العربي تقريبا، و عندما انسدّ الأفق الفكري و الجمالي لتجربة المسرح الجديد في تونس كان انتشاره سريعا عند طيف من المسرحيين محليا و عربيا حيث بات مطية سهلة لتقليده  دون خلق و ابتكار.

و عندما وقع المسرح التونسي في منزلق المبالغات السينوغرافية و الشكلية الجمالية و أصبحت الصورة في الخشبة مقصودة لذاتها دون مضامين فكرية و جمالية أخذ معه شيئا فشيئا المسرح العربي للمنزلق نفسه, و في تقديري الشخصي لا يمكن المضي قدما في التجديد المسرحي إلا متى تم تجاوز المنزلق السينغرافي بواسطة الدراماتورجيا .

2هل تقبّل المسرح العربي الدراماتورجيا ؟

لقد نشأت الدراماتورجيا الحديثة في النصف الثاني من القرن  19 في أوروبا ووصلت إلى المسرح العربي في النصف الثاني من القرن 20 . ووجد المسرح العربي نفسه أمام صعوبة هضم مفاهيمها و مجالات ممارستها ووحد صعوبة في إدراجها ضمن الممارسة الفعلية في صنع المسرحيات. و فيما كان المسرح العربي منجذبا إلى سلطة المخرج حينا والتعرف إلى دور السينغراف الجديد تلعبه في المسرح العربي حينا أخر . وضعته مسألة الدراماتورجيا أمام تحديات لم يتهيأ لها و لم ينجح إلى الآن في العموم في هضمها.

لقد وضعت الدراماتورجيا المسرح العربي أمام امتحان فكري وفني و فلسفي و علمي عسير.

فالدراماتورجيا  موجودة في النص و موجودة في المسار من النص إلى العرض و موجودة في الممثل وفي كل عناصر العرض و في الخشبة برمتها. و تتجلى الدراماتورجيا في آليات وأسس لكنها كذلك فلسفة وممارسة وعلم ووجهة نظر وفكر واستشارة وتدخل ومرافقة ومراجعة وفحص وتذوق ومعنى وإشراف وتنسيق وتحليل وحوار و ما إلى ذلك مما يمثل وجوه المجالات التي تمارس بواسطتها الدراماتورجيا .

وتحتاج الدراماتورجيا إلى التمييز بينها باعتبارها ممارسة جماعية أثناء صنع المسرحيات و بين كونها موكولة إلى شخص مختص هو الدراماتورجي داخل النص و داخل العرض في بنيته الدرامية و أسسه الدرامية و عمل الدراماتورج خارج النص في صلة النص بسياقه التاريخي والثقافي والاجتماعي والنفسي و ما إلى ذلك .

وتحتاج الداراماتورجيا إلى التمييز بين عمل الدراماتورج انطلاقا من النص في اتجاه العرض وعمل الدراماتورج مع المخرج من جهة و عمله مع فريق المسرحية في البروفات إلى غاية البروفة جنرال .

وتحتاج الدراماتورجيا إلى التمييز بينها و بين ممارسات تتداخل معها أو تجاورها مثل الإعداد والاقتباس والترجمة والتوظيف والكولاج و ما إلى ذلك .

ويحتاج الأمر إلى التمييز بين المستشار الدراماتورجي و السكريبت دكتور  والسكريبت أديتور والمستشار الأدبي في المسرح والمشرف الفني وتحتاج الدراماتورجيا إلى التمييز بين الفكر الدراماتورجي ووجهة النظر الدراماتوجي والحوار الدراماتورجي بين أفراد الفريق والحوار المسرحي أو الدرامي بين الشخصيات داخل النص.

و ما يسترعي الانتباه هو أن موقف المسرح العربي في شتى البلدان من الدراماتورجيا أقرب ما يكون من روح موقف المسرح الفرنسي الذي لا يعطي أهميته لدور الدراماتورج بمعناه المعاصر و يكتفي باختزال دور الدراماتورج في ” المستشار الأدبي ” و يحافظ على المعنى الكلاسيكي القديم للدراماتورج وهو ” الكاتب الدرامي ” أي مجرد من قام بكتابة النص لا غير. و توجد أسباب خاصة جعلت  المسرح الفرنسي يقف ذلك الموقف لأنه يولي مسألة حقوق المؤلف أهمية بالغة ضمن فهم قانوني و ثقافي يعطي الأولوية للمؤلف على حساب العمل نفسه و مآلاته الصناعية الجماعية على خلاف الفهم القانوني في بلدان أوروبية أخرى مثل ألمانيا و النرويج و في أمريكا خاصة .

و يزداد وضع الدراماتورجيا في المسرح العربي تعقيدا بسبب الانتقال من أزمة إلى أخرى، فمنذ القرن التاسع عشر كانت الأزمة متمثلة في عدم تقبل المجتمع للظاهرة المسرحية الوافدة من الغرب. لكن الغريب هو أن أزمة أخرى تظهر  الآن متمثلة في عدم تقبل المسرح للمجتمع بحيث أن المسرح أخذ في العزلة عن المجتمع أكثر فأكثر مكتفيا بدعم الدولة ماديا والانغلاق داخل نخب ضيقة تكلم نفسها و لا يصغي إليها أحد .

3-ماهي حاجات  المتلقي المسرحي من زاوية نظر الدراماتورجيا ؟

توجد ثلاث حاجات يحتاج الجمهور لتلبيتها وهي ” المعنى والإحساس والتسلية. و تلعب الدارماتورجيا دورا حاسما في القصة الدرامية مهما يكن نوع الفن الدرامي حيث تنشئ منطقة وسطى ذات طابع رمزي توجد بين العالم الواقعي و العالم المتخيل .

فلا هي تنفصل عن الواقع و لا هي الواقع تماما. و هو عالم قابل للتصديق و لكنه ليس ماثلا أمامنا في سائر الأيام. و يفضي إنشاء ذلك العالم الرمزي إلى إمكانية تلبية الحاجات الثلات: المعنى والإحساس والتسلية .

و لعلّ ذلك العالم الرمزي قريب من المفهوم الذي اجترحه فريديريك نيتشه في كتابه “المعرفة المرحة” و الذي يسري في كتابه “ولادة التراجيديا الاغريقية”. ليس المقصود بالتسلية في الحاجات  التي يطلبها المتلقي ما قد يأخذه البعض على محمل السطحية  والتفاهة  والإسفاف على المعنى الذي تبسّط فيه بيير أو بورديو في كتابه ” في التلفزيون ” حيث بين كيف إن طيفا واسعا من الإعلام المعاصر تنبني صناعته على مفهوم التفاهة أي دوران الإعلام حول نفسه دون مضامين حقيقية و ” البوز ” الذي يعني الانتشار السريع لارتدادات خالية من الفكر تبدأ من أحداث لا قيمة لها .

و إنما المقصود بالتسلية هو الاسترخاء المتولد من التماهي مع العمل الفني وخاصة الشخصيات الموجودة فيه و الاستغراق في العالم المتخيل الساحر .

إن المتلقي حينما تستوي القصة أمامه يجد فيها المعنى المترتب عن تتابع الأحداث و انجرار كل عناصر القصة مكتوبة أو مرئية ومسموعة عن بعضها البعض بنظام معين في ترتيب الأحداث.

وهو ما يعني أن ما يلي حاجة المتلقي إلى المعنى هو ” السببية “. و السببية هي الإجابة عن السؤال الذي يطرحه المتلقي في ذهنه  في كل لحظة و دون انقطاع و هو ” لماذا يحصل ما يحصل في القصة التي تعرض أمامي؟ ”

إن المتفرج يدخل إلى الصالة المسرحية من أجل نفسه و ليس من أجل العرض. فمتى انشدّ إلى العرض فإن ذلك يعني انه انخرط في الإجابة عن الأسئلة التي تبادرت إلى عقله : إن المتفرج هو سؤال ” لماذا “و كل ” لماذا ” عند المتفرج تجيب عنها “لماذا” أخرى وهكذا دواليك طيلة مدة العرض المسرحي.

فحينما يغوص المتفرج في كرسيه و ينسى العالم الخارجي يأخذه سؤال “لماذا” في “كبّة ” من خيوط الأسئلة التي تتشابك و تنسرح دون توقف داخل عملية التلقي .

تتجلى “التسلية” عند المتلقي في ” الاسترخاء ” و هو ما يمنع المتفرج من مغادرة الصالة أثناء العرض و يجد المتفرج حينما تكون القصة ” فعالة ” ما به تستيقظ أحاسيس المتفرج و انفعالاته و هي كثيرة تمتد بين الخشية و الخوف من جهة و الأمل و التطلع من جهة أخرى .

إن الدراماتورجيا تكون لعبت دورها حينما تكون حاسمة في بلوغ الكفاية في حاجات المتلقي موقظة  فيه انفعال الخشية وانفعال الأمل أثناء تلقيه للعمل الفني.

و إذا كان المسرح منذ ” أرسطو ” هو محاكاة فعل إنساني فإن الدراماتورجيا هي كيفية إحكام تلك المحاكاة .

لقد درج عدد من النقاد والباحثين العرب على استعمال مصطلحات تتعلق بالدراماتورجيا و من سوء حظ الثقافة العربية أن ترجمة تلك المصطلحات لم تكن موفقة. فلقد اعتمدت الدكتورة ماري إلياس مثلا على مصطلح “الذهنية الدراماتورجية” على سبيل الترجمة من الفرنسية «l’esprit dramaturgique ».

لكن المعنى المترتب عن مصطلح ” ذهنية ” يلغي جانب الخيال فالذهنية قد تعني تراكم الأحكام  السلبية ضد المسرح على النحو الذي استعمل فيه سامي الجمعان مصطلح “ذهنية المجتمع” باعتبارها من العوائق التي تعترض المسرح. و قد يكون مصطلح “الفكر الدراماتورجي” أوفق في المعنى الذي قصدته ماري إلياس .

وتبلور مصطلح “الفكر الدراماتورجي” عند الدراماتورج “بيام” « J M Piemme » حينما تحدث عن”تكوين وجهة النظر الدراماتورجية” و يكون ذلك مثار الاهتمام في حالتين : الحالة الأولى حينما تتوزع الوظيفة الدراماتورجية على كل الفريق المسرحي مع عدم وجود دراماتورج بحيث تكون وجهات النظر عند الأفراد هي التي يحصل بها دينامية “الحوار  الدراماتورجي” و الحالة الثانية هي أن الممارسة  الدراماتورجية تشمل كل مراحل صنع المسرحية انطلاقا من قراءة الطاولة إلى غاية البروفة جنرال بل إن الممارسة الدراماتورجية تبدأ من المؤلف المسرحي نفسه بما يضعه من ملاحظات و هوامش وتنبيهات  ومقدمات و ما إلى ذلك. و لذلك كله نخلص إلى أن مصطلح  “الفكر الدراماتورجي” يعني أن الأدوات الدراماتورجية متاحة أمام الجميع .

لكن متى أصبح خلق المسافة بين المبدع و عمله صعبا ظهرت الحاجة الملحة إلى الدراماتورج فالمؤلف لا يكتب النص المسرحي لنفسه و المسرحي لا يصنع المسرحية لنفسه فليس خلق المسافة بين الذات و موضوعها متاحا للجميع و دائما .

والدراماتورج هو المختص في إيجاد “المسافة” حتى لا يعطل التعبير عن الذات عملية تلقي  المتفرجين و حتى لا تنغلق المسرحية على نفسها.

4- ماهي الأدوار الدراماتورجية أثناء صنع المسرحية ؟

إن الأدوار الدراماتورجية كثيرة و منها التحليل الدراماتورجي و هي عملية تتم عند المرور من النص إلى العرض و أهم ما انتشر بين المسرحين العرب في هذه العملية هو تعرف الممثل على الشخصية التي يقدمها  في العرض و ما يقتضي ذلك من بحث و حوار مع المخرج و باقي الممثلين في تحليل الشخصيات و خصائصها الجسدية والفكرية والاجتماعية.

و يسمى التحليل الدراماتورجي في بعض البلاد العربية التشريح الدرامي أو التشريح المسرحي. و من الأدوار الدراماتورجية أيضا الفحص الدراماتورجي و هو عملية مراجعة تقنية دقيقة تتعلق بالنص الدرامي قصد التأكد من مدى دراميته. و يوجد الفحص الدراماتورجي متى كان المسرح أو سواه في بلاد وصلت فيها الدراما إلى مستوى الصناعة بأركانها الفنية و الاقتصادية على النحو الموجود في الولايات المتحدة الامريكية ” هوليود و براداوي الخ ” .

و من الأدوار الدراماتورجية التي تقترب من المجال الفكري و الإيديولوجي يمكن ذكر الاستشارة الدراماتورجية و هي عملية تتعلق بربط النص و العرض بالسياق الثقافي والحضاري والتاريخي الذي ينتمي إليه العمل المسرحي و التأكد من صّحة أرضية المعلومات الواردة في المسرحية .

5-  من هو الدراماتورج ؟

يحتل الدراماتورج اليوم مكانة لا تنفك تزداد أهميتها أكثر فأكثر . يقتصر معنى الدراماتورج في المسرح الفرنسي على الكاتب المسرحي دون تجاوز لذلك المعنى لكن المسرح الألماني و النرويجي وسع من دائرة ذلك المعنى ليشمل مع برتولد بريشت مسألة بناء المعنى في النص وفي الإخراج .

و يرتبط مصطلح ” المعنى ” عند بريشت بالدلالة الإيديولوجية و إذا كانت الوظيفة المخولة  للدراماتورجيا  عند بريشت هي كيف يتم اقناع المتفرج. فإنها انتقلت فيما بعد بريشت إلى كيف يشارك المتفرج في العمل المسرحي من داخل العمل المسرحي ؟

إن الدراماتورجيا هي الأدوات التي تجعل المتلقي لا ينفض عن العمل المسرحي و لا يذهب عنه ببصره و بصيرته. تضمن الدراماتورجيا وصول المؤلف المسرحي أو المخرج أو سواهما إلى ما يرنوان إليه من رغبة التعبير عن الذات لكن الأهم هو وصول المتلقي إلى غايته في أن يستوعب المعنى و أن يختلجه نبض الإحساس و تبلغ نفسه و ما تتطلبه من التسلية مما يعطيه الاستغراق في العمل المسرحي ومما ينسيه ما يوجد خارج العمل المسرحي وخارج القاعة المسرحية .

و يسمي علماء الدراماتورجيا هذا الوضع النموذجي “بالقصة الفعالة” و هي فعالة لأنها تؤدي أدوراها في اتجاهين معا : يعطي المبدع شكلا فنيا لمكنونات ذاته مما يجعل التعبير هو عقلنة الطاقة الداخلية المتدفقة و ينجح ذلك الشكل الفني في أن يوصل إلى المتلقي الرسائل التي تلبي حاجات الجمهور .

و من هذا المنطلق يكتسب مصطلح “دراماتورج” مضمونا يتعلق تحديدا بالقدرة على خلق المسافة بين المبدع و عمله حتى لا يغرق في الوظيفة التعبيرية المطلقة التي قد ينفصل  بسببها عن المتلقي فالمبدع لا ينتج عمله لنفسه بل للجمهور .

و على هذا النحو تبدو وظيفة الدراماتورج أكثر عقلانية من غيرها من الوظائف داخل عملية الصناعة الدرامية. و يبدو أن المهن الدراماتورجية تتزايد اختصاصا و أهمية اليوم فالدراماتورج أصناف كثيرة .

يوجد الدراماتورج و المستشار الدراماتورجي والمشرف الدراماتورجي والسكريبت دكتور script –doctor والسكريبت أديتور اscript –editor والمستشار الأدبي و ما إلى ذلك .

وتلك أهم الأصناف من الدراماتورجيين تقريبا و هي مطلوبة في شتى الفنون الدرامية والموسيقية مثل الأوبرا والبالي والمسرح والسينما والقصص المصورة والتلفزيون والراديو والسرك الفني والكرنفال وسواها.

و ينبغي أن نتطرق إلى مصطلح ” المدير الفني ” على حدة . فهو مصطلح مثقل بتاريخ طويل في المسرح العربي يجعله بعيدا نوعا ما عن المجال الدراماتورجي .

إن المدير الفني هو وظيفة داخل الفرق المسرحية و أثناء عملية صنع المسرحيات ظهرت في المسرح  العربي في بداية القرن العشرين و ارتبط ظهور المدير الفني بمرحلة ما قبل الظهور الصريح للمخرج المسرحي بمعناه الحديث .

لقد كان المدير الفني هو الصورة الأولى و ” البدائية ” للمخرج بحيث كان يقوم بإدارة الممثلين فقط مع إعطاء الخشبة بالكامل لوظيفة أخرى تبدو منفصلة و كانت تسمى ” المناظر “, و لم يتغير الوضع إلا مع المخرج علي بن عياد في تونس في نهاية الخمسينات و بداية الستينات ضمن الفرقة البلدية للتمثيل في تونس ( و هي أول فرقة محترفة في تونس تأسست سنة 1953 ).

حينها نقل المسرح العربي إلى مرحلة جديدة تتضح فيها وظيفة المخرج المسؤول عن الممثلين و عن الخشبة معا مستفيدا من دراسته و ممارسته للمسرح و السينما في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. ممّا يعني أنّ الإدارة الفنيّة هي إدارة الممثلين والإخراج هو إدارة الممثلين والخشبة والدراماتورجيا هي إدارة المتفرج.

6-ما هو الجمهور من زاوية نظر الدراماتورجيا ؟

ليس الجمهور في الدراماتورجيا هم الأشخاص الطبيعيون الموجودون في الصالة المسرحية قصد مشاهدة العرض المسرحي .

أولئك هم مجرد مقطتعو تذاكر ثم يتحولون إلى جمهور مسرحي متى تحققت مشاركتهم داخل العمل المسرحي. فإذا لم يتحقق ذلك يظلون مجرد أشخاص طبيعيين موجودين في صالة المسرح بمناسبة المسرحية .

ينبغي أن يكون الجمهور موجودا منذ مرحلة كتابة النص و مرحلة كتابة العرض. و ليس الجمهور هم أولئك الذين يظهرون في المرحلة الأخيرة التي توصف بمرحلة التوزيع التجاري أو الترويج و ليس المقصود أن الجمهور ينبغي أن يرافق فردا فردا عملية الصنع من مرحلة الكتابة و الإنتاج الفني إلى غاية مرحلة التوزيع التجاري. فذلك فهم سطحي كاريكاتوري للمسألة الدراماتورجية. و إنما القصد هو أن الجمهور موجود في النص المكتوب أو نص الخشبة باعتباره تقنيات في الكتابة تسميها الدراماتورجيا الأسس الدرامية و هي التي تضمن مشاركة المتفرج من داخل العمل المسرحي قبل أن يتحقق ذلك داخل الصالة المسرحية .

و يختلف مفهوم الجمهور في الدراماتورجيا عن مفهوم المتلقي الضمني في نظريات التلقي و في نظرية سوسيولوجيا التلقي فالملتقي الضمني هو الجمهور الكامن في العمل الفني ثم يتحقق اولا  يتحقق في واقع التلقي و التقبل و لا صلة لذلك بالدراماتورجيا .

تنهض الدراماتورجيا على مفهوم ” المشاركة ” و القصد من ذلك هو انها تسعى إلى مشاركة الجمهور انفعاليا و عقليا داخل نسيج العرض و لا تسعى إلى الاهتمام بتقبل الجمهور في القاعة المسرحية. لذلك تعد الدراماتورجيا فن إدارة المتلقي .

إن مفهوم الجمهور في الدراما تورجيا لا يتصل بصورة مباشرة بالناحية التنظيمية و اللوجستية و من هذا المنطلق كان المسرح الألماني منذ برتولد بريشت في القرن العشرين يعتمد على رأسين في صنع المسرحيات : المخرج من ناحية والدراماتورج من ناحية أخرى.

من الممكن اقتراح مفهوم للجمهور من ناحية الدراماتورجيا بصيغة التعريف “بما ليس هو” و ليس بصيغة ” ماهية الشيء ” على النحو التالي: ليس الجمهور هو مجرد مجموع الأشخاص الطبيعيين الذين يقتطعون تذاكرهم قصد مشاهدة العمل المسرحي ثم يدخلون الصالة المسرحية و يجلسون على الكراسي في مواجهة الخشبة أو حولها ثم يتابعون العمل طيلة مدة العرض أو طيلة جزء منها فقط .

الجمهور في نظر الدراماتورجيا هو تقنيات كتابة داخل النص و داخل العرض. و ذلك ما يجعل إمكانية مشاركة الجمهور في المسرحية من داخل المسرحية موجودة. إن الجمهور موجود في الصالة لكنه قبل ذلك موجود في العرض و قبل ذلك موجود في البروفة و قبل ذلك موجود في النص .

فهو ليس فقط يشاهد ويتفرج ويتابع وإنما هو يكتب معك وتكتب به فإن لم تفعل ذلك وجدت نفسك باعتبارك مسرحيا معزولا عنه.

تعطي الدراماتورجيا لتقنيات الكتابة التي تضمن مشاركة الجمهور مصطلح ” الأسس الدرامية ” و في مواطن أقل توترا يظهر مصطلح ” الآليات الدرامية ” و هما نفس الشيء .

7-ما هي الأسس الدرامية التي تصون المسرحية من العزلة عن الجمهور ؟

إن مناط الدور الذي تلعبه الدراماتوجيا في المسرح هو خلق المسافة بين المبدع و عمله من جهة وضمان مشاركة المتلقي في العمل الفني من داخله أي أن الدراماتورجيا تسعى إلى إبعاد المبدع أكثر ما يمكن عن العمل الفني و إحلال المتلقي مساحة واسعة داخل العمل الفني. و لذلك عدت الدراماتورجيا عند البعض فن التلقي أي كيف يصبح العمل الفني قابلا للتلقي بواسطة أدوات مضبوطة توجد داخل العمل الفني. ما معنى إن الأسس الدرامية هي اثنان وعشرون أساسا يتم الصرف بواسطتها داخل البنية الدرامية مثلما يتم تحريك قطع الشطرنج على رقعة الشطرنج الثابتة في مربعاتها لكن لا متناهية الإحتمالات في تحريك القطع فوقها.

و البنية الدرامية ثابتة لا تتغير حيث أنها تتكون من ثلاثة فصول و ما زاد عنها لا تعد فصولا درامية و إنما هي فصول لوجستية. وليس بالضرورة إذا لم يقسم المبدع عمله أو قسمه بطريقة لا تعتمد على الفصول الثلاثة أنه خرج على البنية الدرامية بل هو يخضع لها ضمنيا. فالنية الدرامية قد تكون ظاهرة و قد تكون مختفية لكنها موجودة في الحالتين .  و يوجد نوعان من البنية الدرامية : البنية الدرامية البسيطة و البنية الدرامية المثراة أي تلك التي يقع اثراؤها بإضافة حادثة قادحة في الفصل الثالث بعد الكلايماكس الذي ينهي الأحداث في نهاية الفصل الثاني. و يسمى ذلك الانقلاب الفجئي للحدث .

و هو أن نعود إلى الصراع بعد أن سكن الاطمئنان في نفوس المتفرجين أما الأسس الدرامية فهي إثنان و عشرون أساسا هي : العنوان و الملخص الدرامي (on line pitsh) و الأرينا ( الساحة – الحلبة بالمعنى اللغوي أو المكان الدرامي الذي يتم فيه الحدث) و الحادثة القادحة والهدف ( الحدث هو هدف الشخصية الذي أعلنه ثم يصارع العقبات) .

والشخصيات الفاعلة الرئيسية ( أي التي تعيش الصراع أكثر من غيرها ) والأهداف الدرامية الفرعية و الرهان ( مصدر تحفيز الشخصية و هو يتجاوز الهدف لأنه حالة الخطر التي توجد بين بلوغ الهدف و عدم بلوغه و هو محفز للمتفرج حتى يتعلق بالحدث و يتماهى مع الشخصية التي قد تخسر كل شيء أو تخسر نفسها و هي تسعى لتحقيق هدفها) .

والشخصيات الفاعلة الثانوية و الوسائل ( أي المسارات التي تسير الشخصيات فيها قدما قصد بلوغ أهدافها ) و التصريح بالهدف ( لا يوجد هدف ما لم يتم التصريح به )

والعقبات ذات المصدر الداخلي (الباطني) و العقبات الخارجية ذات المصدر الداخلي و العقبات ذات المصدر الخارجي و الإجابة الدرامية و المفارقات الدرامية والمفارقات الدرامية بالإحساس و الكلايماكس ماديان والشخصيات الظرفية والصراعات الظرفية والكلايماكس الظرفي والإجابة الدرامية الظرفية .

و من باب توضيح كيف تتم إدارة المتفرج دراماتورجيا بواسطة الأسس الدرامية نضرب مثال “المفارقة الدرامية”

إن المفارقة الدرامية هي أن يكون بحوزة المتفرج معلومة تجهلها إحدى الشخصيات على الأقل مما يجعل المتفرج مستبقا إلى توقع ما سيحدث و تصبح المفارقة الدرامية أقوى و أعمق حينما يكون بحوزة المتفرج معلومة تجهلها إحدى الشخصيات على الأقل مما يجعل المتفرج مستبقا إلى توقّع ما سيحدث و تصبح المفارقة الدرامية أقوى و أعمق حينما يكون بحوزة المتفرج إحساس بما سيقع لاحقا مما تجهله الشخصيات جميعا مثلا حينما يتسلم لاري و هاردي سيارة فخمة من صاحبها للقيام  بجولة تجريبية فإن الإحساس عند المتفرج هو أن كارثة ستحل بالسيارة و يسمى هذا ” المفارقة الدرامية الواسعة ” و هو مثال ضربه أحد الدراماتورجيين الأوروبيين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت