نص مسرحي: “الدِّهليز” / تأليف: محمود أبو العباس
(1)
(في الظَّلام تنبعث مؤثِّرات صوتيَّة.. لغط لمجموعة من النَّاس.. سيَّارات.. أصوات موسيقيَّة متناثرة.. يتحوَّل الصَّوت إلى صوت ممغنط.. نجد مجموعة من النَّاس تدخل وكأنَّها مسحوبة للخلف.. داخل بوَّابة على شكل صيوان الأذن عند الإنسان.. يمرُّون عبر ممر مخملي إلى ستارة في وسطها باب.. المجموعة تؤدِّي حركات دلالة على عدم التَّجانس بينها).
(من الظَّلام ينبعث ضوء يصل إلى البوَّابة الرَّئيسيَّة في وسط يسار المسرح.. حيث يجلس رجل ضخم الجثَّة.. أصلع.. يرتدي نظَّارات سوداء.. من جلسته يتبيَّن أنَّه ثقيل لا يحرِّك ساكنًا.. يمكن أن نسمّيه “صيوان”).
صيوان: (يحدِّث نفسه) حلقة مفرغة هذا الَّذي نحن فيه.. نفس الوجوه تلج هذا الباب يوميًّا.. وبنفس الابتسامات الصَّفراء يتناقلون عواطفهم الصَّدئة.. ثمَّإنِّي أكرِّر نفس السُّؤال يوميًّا.. كيف يمكن الاقتناع بأنَّ رضا النَّاس غاية لا تُدرك!(ينهض بعصبيَّة) وأنا هنا أجد نفسي في غير موقعي.. وأقوم على خدمة مجموعة من الأغبياء.. ومطلوب منِّي أن أردّ التَّحيَّة عليهم بأحسن منها.. (يهدأ) مركون أنا في زاوية مهملة عليَّ أن أجعلها جنَّتي على الأرض.
(يدخل “قوقع”.. وهو شخصيَّة تتَّسم بالتَّردُّد والخوف الشَّديدين.. يدخل في حزمة ضوء تنبعث من جانب المسرح.. خط الضَّوء يصل إلى البوَّابة).
صيوان: ها.. قد جاء أوَّل الغيث.. أشم رائحته من على بعد ميل.
قوقع: (ينظر إلى الباب ثمَّ يتوقَّف) لا أدري لماذا يسقط قلبي في حذائي كلَّما وجَّهت وجهتي إلى هذه البوَّابة.. وهذا الدِّهليز الَّذي أكل من عمري عشر سنوات..(يدخل مسرعًا)صبا…
صيوان: (يقاطعه) صباح النُّور.
قوقع: (مبتسمًا ومداعبًا) لا أدري لماذا تصادر منِّي حتَّى تحيَّة الصَّباح؟
صيوان: لأنَّك تعيد نفس الكلمة يوميًّا.. أما سئمت منها؟
قوقع: بلى.. (يغيِّر من نبرته) أُسعدتَ صباحًا.
صيوان: (يهزُّ رأسه علامة الرِّضا) هل وقَّعت؟ (يقدِّم له لائحة).
قوقع: بل وبصمت.. منذ البارحة.
صيوان: ما هذا التَّجاوز يا قوقع! ما عهدتك صلف مثل الآخرين.
قوقع: لا أدري من أيَّة سلطة استللت سيف وجهك الَّذي كلَّما أنظر إليه أحس بفجيعة.
صيوان: من لون وجهك المخطوف.. تأتي كأنَّك مضروب على قلبك.. يا أخي دع الأمور تسلك هكذا…
قوقع: سمعتها.
صيوان: يراودكم نفس الهاجس.
قوقع: (يدخل مسرعًا).
صيوان: (لوحده) سألوا الكلب.. لِمَ تلهث طوال يومك؟ قال.. لا أريد أن يتَّهمني أحد بالرَّاحة.. ثمَّ إنَّ الهواء ثقيل هنا.. وحصصه لا توزَّع بالتَّساوي.. والكلب الأصيل منَّا.. يحتاج إلى رئة أكبر من منطاد.. ليتنفَّس بحرِّيَّة.
(موسيقى.. وإظلام).
(2)
(عند مدخل القسم المخملي من الدِّيكور.. حيث مكتب “طلبة”.. وهو موظَّف أنيق.. يضع على طاولته إناء مملوء بالماء في وسطه وردة.. نسمع موسيقى هادئة تُعزَف.. يخرج “طلبة” من خلف بوَّابة السِّتارة الوسط.. وقد وضع على أذنيه سمَّاعتين).
طلبة: (مداعبًا) لقد حضرت مبكِّرًا.. وبهذا أكون قد سبقتك بالمجيء.
قوقع: أنت الآخر أحسست بزلزال يهدِّد كرسيّك؟
طلبة: لا.. إنَّما الاحتياط واجب كما يقولون.. رغم أنِّي لا أؤمن بهذه الخرافات.
قوقع: لك الحق.. فأنت منقطع عن العالم ولا تسمع إلَّا نفسك.. بل لا تسمع إلَّا ما تتفضَّل به عليك آلة التَّسجيل هذه من فضلات الـ…
طلبة: ليست فضلات يا قوقع.. إنَّما هي محاولة في أن تتجاوز كل ما حولك.. السَّماع هنا يجلي المرض.. فالسَّماع قتل بطيء.. ونحن لسنا بحاجة إليه الآن.. لأنَّنا نعدُّ أيَّامنا بالاحترامات والابتسامات والتَّحيَّات.. لأجل أن يمتد شهرنا ثلاثين يومًا.. بعدها تملأ الجيوب.. وتفرح القلوب.. وليذهب من يذهب بعد جيبي إلى الفناء.
قوقع: لا أدري.. أيَّام مثل السَّحاب عاقر.. وإن تحنّ علينا فأنِّها ستمطرمللًا وغربة.
طلبة: وخوف.
قوقع: أحسنت.. وخوف.
طلبة: ها؟ هل تأخذ السَّمَّاعات لتحلِّق في الخيال..بعيدًا عن هذا الواقع الخالي…
قوقع: إلَّا من رحمة الله.
طلبة: الله.. (بريبة وحذر شديدين) أراك تطلق العنان للسانك.. وفي قول متحدِّي للـ…
قوقع: أنت الآخر تدفع بي إلى الرُّعب.
طلبة: من ماذا؟
قوقع: من كلِّ شيء.. كلِّ شيء.. (يخرج).
(يعود طلبة إلى مراقصة الهواء.. والموسيقى تنبعث).
طلبة: لا تدع قدميك تنطلق بعيدًا عمَّا مرسوم لها..فالزَّلَّة واقعةلا ريب.. حتَّى لو كنت واقفًا في مكانك.
(تعلو الموسيقى.. وإظلام).
(3)
(يستوقف قوقع ما يجري بين “سندان” صاحب الأفكار.. و”مطرقة” الَّذي يعتاش على أفكاره.. نراه يضع كمِّيَّة من الأوراق أمام “سندان” الثَّرثار بأفكاره المتعدِّدة).
مطرقة: خذ واكتب هذه الأفكار.. فأنت تنطق ذهبًا.
سندان: ويمكننا توسيع رقعة عملنا من خلال عقد اتِّفاقات مع شركات تضفي لإنتاجنا اسمًا ودعاية.. بروباغاندا.
مطرقة: هل كتبت كل أفكارك؟
سندان: نعم.
مطرقة: (مع نفسه) فهذه أولى خطواتي بالاتِّجاه الصَّحيح.. كل أفكاري المبعثرة أستطيع الآن جمعها.. كي أبدو مرموقًا.. وبؤرة…
قوقع: (مع نفسه، في الجانب) فساد.. (يلطم فمه ويغلقه بقوَّة).
مطرقة: (يكمل حديثه) بؤرة يلتفُّ حولها الجميع لاستشارتي.
سندان: دون ذكر اسمي؟
مطرقة: كيف.. كل فكرة هي من بنات أفكاري أنا.. لولاي لما كان عقلك ينتج هذا الكم من الأفكار والإبداعات.. أنا هنا حتَّى حين لا أفكِّر أغنيك بفكرة جديدة.
سندان: هذا صحيح.
مطرقة: والآن عليك أن تغلق فمك حتَّى أعود.. ولا تثرثر.. ها.
سندان: بمناسبة الفم.. لقد اختلف الكثيرون حول من يدبِّر المشاكل في الفم.. أهو اللِّسان أم الأسنان؟
مطرقة: وأنت ماذا ترى؟
سندان: الأسنان طبعًا.
مطرقة: وليس اللِّسان؟
سندان: طبعًا.
مطرقة: طبعًا؟ كيف؟
سندان: لأنَّ الأسنان فيها كثير من العوائق.. فإذا لم تمضغ الطَّعام جيِّدًا.. ستصاب بعسر الهضم فتمتنع عن الكلام.. ولو أنَّك فقدت ثلاثة أو أربعة أسنان أماميَّة.. فإنَّ كل كلماتك ستكون مقلوبة المعنى.. وإنَّ الفراغات في الأسنان تكون منافذ للهواء.. تتعب حنجرتك في الكلام.. و…
مطرقة: كفى..كفى.. كلامك سيل جارف.. وكلامك كأحجار ذلك السَّيل.. أراها تقذف في وجهي كحمم بركان.. اسكت (يخرج).
(يدخل قوقع مسرعًا.. فيستوقفه سندان).
سندان: قوقع.
(قوقع يرجع إلى الخلف).
سندان: ها أنت تباشر بالمجابهة.
قوقع: أيَّة مجابهة؟
سندان: تمرُّ دون تحيَّة أو سلام.. (يقبِّله).
قوقع: قلت لك إنَّ هذه القُبَل تنقل الجراثيم.
سندان: وهل أنا ذبابة؟
قوقع: لا.
سندان: صرصار؟
قوقع: لا.
سندان: شكلي من فصيلة العقارب؟
قوقع:لا أدري.. العقارب تختزن سمومًا أشدُّ وطأة من الجراثيم.
سندان: هل عندك منه لأنتحر وأنهي حياتي؟ فقد امتصَّ عقلي هذا المطرقة ابن المطرقة.
قوقع: لا أدري.. أمِّي تقول.. تموت العقارب وتبقى سمومها في رأسها.. ثمَّ إنِّي أراك تريد منِّي زلَّة لسان حتَّى توقعني في الخطأ ويذهب المثل القائل وقع الفأس بالرَّأس إلى محلِّه الطَّبيعي.. ومحلّه الصَّحيح أنا.. أليس كذلك؟
سندان: لا.. بل أتجرَّع السُّم ولا أنظر إلى هذا المطرقة الَّذي…
قوقع: هو صديقك.. فلِمَ التَّذمُّر وأنت تخطُّ له أفكارًا تقوِّيه للبقاء في هذا المكان حتَّى آخر العمر؟
سندان: من لي غيرك أشتكي له؟
قوقع: ولماذا لا تكلِّمه هو؟
سندان: يقولون إنَّ لدغته تُوصلك إلى القبر مباشرة.
قوقع: وهل يحل واحد مثلي مشكلتك معه.. وأنا أشجع ما فيَّ النَّظر إليه فقط.. خوفًا من جبروته.
سندان: أيُّ جبروت.. وهو كالطِّفل عندما يجلس قربي.. بلا عقل ولا فهم ولا…
قوقع: لا تستضعف الضَّعيف.. لِئَلَّا يكشِّر عن أنياب تلتهمك.
سندان: (يبدِّل نبرته) وترى أنَّه ضعيف.. بكلِّ كيانه.. بكلِّ هذا الوعي والتَّخطيط والمبادرة.
قوقع: لم أقل هذا.
سندان: فإذن ماذا قلت عنه.. وهو يُشفق على ضعفك.. ففي كلِّ مرَّة يقول.. قوقع مسكين بريء.. لا أميِّز بينه وبين الكرسي الَّذي يجلس عليه.
قوقع: خسئت.
سندان: وتقول عنه يخسأ.. السَّيِّد مطرقة خسيس!
قوقع: أنا قلت.. (تخفُّ نبرته من الارتباك) قلت…
سندان: نعم.
قوقع: أنا.. (يسقط مغشيًّا عليه).
سندان: تعال.. لماذا تنسحب من النِّقاش؟
(إظلام).
(4)
(يطل طلبة بوجهه البشوش على صيوان.. وهنا سيكون الحوار بأسلوبين.. حوار مباشر بين الشَّخصيَّتين.. وحوار مسجَّل يمثِّل ضمير الشَّخصيَّتين ودواخلهما بأسلوب متضارب.. وهما يتقابلان وجهًا لوجه).
طلبة: صديقي الحبيب.. اليوم لم يكن بوسعي المجيء قبلك.. أقدِّم لك اعتذاري.
صيوان: بشوش كعادتك.
طلبة: إنَّ كل بشاشة وجهي تأتي من النَّظر إلى محيَّاك المقبل على العافية.
صيوان: (مسجَّل) أين تدرَّبت على هذا النِّفاق؟ ومن درَّبك؟ دلّني عليه.
صيوان: ومَن يجرؤ أن يطيل النَّظر إلى طلعتك البهيَّة الأنيقة.
طلبة: (مسجَّل)طلعت روحك من عيونك.
طلبة: سمعتك تهمس عن هؤلاء الأغبياء الَّذين تقوم على خدمتهم.. عافاك الله.
صيوان: (مسجَّل)(مرعوب) من البداية أحسست أنَّك تضمر لي أمرًا كريهًا مثل وجهك.
صيوان: بل هي هواجسي تذهب بي بعيدًا.. سرعان ما يرجعني إليها التَّفكير بأنَّا هنا وفي مرتعنا الأزلي.. أدام الله علينا أفياءه.
طلبة: (مسجَّل) لو أعرتني لسانك أسبوعًا واحدًا.. لأصبحت في أعلى المراتب.
طلبة: وخذل مَن يسعى للخراب.. وتدنيس القلوب بالأوهام.
صيوان: (مسجَّل) وجودك وهم كبير.
صيوان: والكذب والكذَّابين.
طلبة: (مسجَّل) وأنت فارسهم في الكذب.
طلبة: ما يعجبني فيك أخلاقك النَّبيلة.. الَّتي تنمُّ عن شرف عائلة لا تعرف المحاباة.. والنِّفاق.. والحفر للآخرين.
صيوان: (مسجَّل) لو كان بيدي.. لحفرت لك حفرة تمحي ذكراك من على الأرض.
صيوان: وأنا حين أستنشق عطرك وهو يسبقك بالدُّخول فإنِّي أتأكَّد من طهارة قلبك.
طلبة: (مسجَّل) أعان الله قلبي على احتمالك.
طلبة: تفضَّل عد إلى عملك.
صيوان: وأنا لا أريد أن أسرق من وقتك.
طلبة: حماك الله من السَّرقة.
صيوان: وأنعم قلبك بالرِّقَّة.
طلبة: (مسجَّل) (مبتسمًا) يا سيِّد المرتزقة.
صيوان: (مسجَّل) (مبتسمًا) يا من تذكِّرني بالمحرقة.
(يذهب طلبة إلى مكانه.. وتُسلَّط عليه بقعة ضوء).
طلبة: أوف.. مجاملته بكلمات لا تليق به تجعلني أشعر بالغثيان.. أحس بأنِّي قد ركضت ألف ميل.. بل يكاد قلبي يقف وأنا أسعى لإرضاء غروره الأرعن بكلمات أتعسها لا تليق شرفًا له.
(إظلام على طلبة).
صيوان: (في مكانه داخل بقعة ضوء) طلبة هذا أخطر من كلِّ الأمراض فتكًا.. ليس من المعقول أن أكلِّمه ويكلِّمني.. ولساني ينطق خلاف عقلي وقلبي.. عضلات وجهي أحسُّها تقفز من جمجمتي بسبب ابتسامتي المزيَّفة بوجهه الَّذي يوحي بالكارثة.. ماذا يريد منِّي هذا الطّلبة؟
(يدخل عليه طلبة).
طلبة: هل ناديتني؟
صيوان: ما هذا الحب.. حتَّى حين أهمس باسمك في قلبي.. تسمعني؟
طلبة: لأنِّي أنا قلبك.
صيوان: لساني لا يدَّخر مدحًا في حبِّك.. يا قلبي.
طلبة: حبيبي.. وصديقي الصَّدوق.
(إظلام..وموسيقى).
(5)
(قد أنهى قوقع إغلاق بابه وصعد فوق منضدته واقفًا على أربع كالحيوان.. يحرِّك رأسه المبلول بالماء.. فيتناثر).
قوقع: لا أستطيع أن أستفيق من كابوس تلبَّسني مثل شيطان يتربَّع على أفعى جسدي.. جسدي الَّذي لا حراك به يستنطقه الجبن.. في كلِّ الزَّوايا أوزِّع بلادتي علَّها تسعف الآخرين من أنَّها طيبة مخلَّة بالشَّرف.. علَّمتني عليها علامات الرِّضا في صغري.. لا اعتراض حين أجوع.. وإذا بكيت عليَّ أن أبكي بصمت.. وحين أشهق أعاقب نفسي على فعلتي.. دائمًا أُغلق على نفسي الباب.. باب بيتي.. باب غرفتي.. باب عقلي.. باب ضحكي.. باب شوقي.. باب حبِّي.. أبواب خلف أبواب.. حتَّى أحسست بأنِّي أتخشَّب.. أُصبح وقودًا لمهزلة خوفي حتَّى من الهواء الَّذي أتنفَّسه.. ومن ثقب في قلبي أنظر إلى عالم مزدحم بالكراهية.. أبحث عن وجه يشبهني فلا أجد إلَّا صديقتي.. العزلة.. الكلام الطَّيِّب أصبح موسيقى نشاز في عالم منافق.. والصَّمت هنا مدعاة للتَّساؤل..وعليك أنت البريء أن تثبت براءتك أمام قضاة هم ليسوا بأبرياء..حتَّى أحلامي صارت قوانين تحكمني بالإصرار والتَّرصُّد..النَّاس في هذا الدِّهليز يتمدَّدون في أفكاري.. وعليَّ أن أكيِّف كل حاجاتي وفقًا لشروطهم.. الحرمان.. أكثر الكلمات نبلًا وهيبة..ربَّما ستكرهني نفسي لأنِّي لا أجيد الثَّرثرة إلَّا أمامها ولأنَّ انتقائي لكلمة ترضي الآخرين أصبحت صعبة.. عصيَّة على التَّفسير.. لأنَّهم يفسِّرون وفق ما يشتهون لا وفق ما تقصد.. والقصد عندنا بشع حين يباغتك أحدهم وبعد شرح طويل بسؤال.. ماذا تقصد؟ وماذا تقصد هذه اتِّهام حتَّى تثبت إدانتك..(صوت طرقات على الباب. يقترب قوقع من الباب) مَن؟ (يفتح الباب) لا أحد.. (يكلِّم نفسه) ما بك؟ إنَّها دقَّات قلبك الخائف.. ممَّن تخاف؟
(إظلام).
(6)
(مطرقة وسندان وجهًا لوجه).
مطرقة: تعال اسمع يا سندان.
سندان: تفضَّل سيِّد مطرقة.
مطرقة: ما رأيك أن نرفع الاقتراح التَّالي.
سندان: تفضَّل سيِّد مطرقة.. اقتراحاتك شفاء لأمراض يعجُّ بها هذا الدِّهليز.
مطرقة: يمكننا توسيع رقعة عملنا من خلال عقد اتِّفاقات مع شركات تضفي لإنتاجنا اسمًا ودعاية..بروباغاندا.
سندان: (مع نفسه) ما هذا..إنَّه يشتري منِّي الكلام.. فيصبح سلعته.. ليعاود بيع ما اشتراه منِّي عليَّ!
مطرقة: أراك أطلت التَّفكير بما قلت؟
سندان: طبعًا سيِّد مطرقة.
مطرقة: إذن أعجبتك الفكرة.
سندان: بل لو اجتمعت كل العقول في هذا الدِّهليز فإنَّها ستقف عاجزة أمام قدرتك في هذه المبادرة.
مطرقة: كثيرة هي الأفكار.. ولكن من يسمع.
سندان: فكرتك تقتحم أسوار الرُّوح.. فكيف لا تُسمَع.
مطرقة: قل لي.. ماذا عن قوقع؟
سندان: أراه أكثر عزلة من قبل.. إحساسه العالي بأنَّه لم يحقِّق إنجازًا طوال هذا العام.. جعله مخذولًا.
مطرقة: عليك أن ترتِّب أفكاره.
سندان: كيف؟
مطرقة: اسأله.. من ذا الَّذي يُكثِر الحديث عنِّي في هذه الأيَّام؟
سندان: لا نفع من سؤاله لأنَّه يظنُّ بأنِّي ألفِّق الكلام ضدّك.. مع علمه بأنِّي لا أعصي لك أمرًا.
مطرقة: شجّعه في أن يستمع لما تفوَّه به أبواق طلبة.. أو دعه يستدرج صيوان في الكلام.. ويمكن لك أن تكون ضحيَّتي أمامه ولا بُدَّ من إنقاذك منِّي.
سندان: جرَّبت معه كل الوسائل.
مطرقة: واستجاب؟
سندان: لا.. بل انهار.. سقط مغشيًّا عليه.
مطرقة: (يضحك).
سندان: قهقهاتك.. تذكِّرني بأوَّل يوم وصلت فيه إلى هذا الدِّهليز.. حين سألتك عن الغاية من وراء وجودنا في هذا الدِّهليز.
مطرقة: فأضحكتني الغاية.
سندان:أجل.
مطرقة: الغايات أصعب الوسائل في اشتباك رؤى المستقبل.. وهذا انعكاس مادِّي لفحوى العلاقات الشَّائكة في عمليَّة استفحال البعوض في هزيمة الإنسان.
سندان: (صارخًا) فكرة عظيمة.
مطرقة: سجِّلها قبل أن تطير.. (يضحك ويذهب بعيدًا).
سندان: أقطع ذراعي إذا كنت قد فهمت من وساخة هذا شيئًا.. ولكن لا بُدَّ من تسجيل حتَّى عطسته لأنَّها تختلف كثيرًا عن عطسة العنزة.. كثيرون هم الَّذين يصنعون أمجادهم متَّكئين على جهود الآخرين.. فيصبحون هم في المقدِّمة.. ثمَّ يوجِّهون اتِّهاماتهم للآخرين مبرِّرين لصوصيَّتهم.
(إظلام).
(7)
(إضاءة على طلبة ومجموعة حُزَم ضوئيَّة تتوزَّع على الشَّخصيَّات الباقية.. كلٌّ في مكانه).
طلبة: سمعتم؟ طرق سمع السَّيِّد استاكيوس كلام.. يشبه وساخة بطونكم.. والكلام أغاضة جدًّا.
المجموعة: لا!
طلبة: بل حطَّم مكتبه الفاره.. وجعله مزبلة.. ووعد بأنَّه سيجعل هذا الدِّهليز ومَن فيه إلى هشيم.. يحرقه ببصقة منه.
المجموعة: (يلطمون جباههم) لا!
طلبة: لقد قرَّر من اليوم.. الَّذي ليس معه.. فهو ضدّه.
المجموعة: لا!
طلبة: عليكم جميعًا أن تسعوا إلى تقديم البراءات أو الاستقالات.
المجموعة: لا!
طلبة: أو أنَّه سيمحيكم من الذَّاكرة.
المجموعة: لا!
طلبة: بل ومطلوب منكم طي صفحات عقولكم.. وتغيير محتواها لما يريد ويرضى.
المجموعة: لا!
طلبة: ألم تعلِّمكم النَّكسات المتتالية في حرق كل شيء.. بأنَّه الأقوى؟
المجموعة: لا!
طلبة: فإذن ذنبكم أقبح الذُّنوب.
المجموعة: لا!
(إظلام).
(8)
(صيوان في بقعته).
صيوان: لم أكن أعرف أنَّنا نجلس على هذه القنبلة الموقوتة.
(قوقع في بقعته).
قوقع : يا رب.. اجعل مقصده بعيدًا عن بدني الرَّكيك.. وعقلي المنحدر إلى الجنون.
(سندان في بقعته).
سندان: تعلَّمنا أنَّ الزَّبد في هذا البحر المتلاطم سيذهب بنا إلى الهاوية.
(مطرقة في بقعته).
مطرقة: تعلَّمنا أنَّ الزَّبد في هذا البحر المتلاطم سيذهب بنا إلى الهاوية.
سندان: (يضرب على رأسه) حتَّى في الصَّوت سيلحق بي مطرقة.
(مطرقة في بقعته).
مطرقة: ها ها.. عليَّ وعلى أعدائي.
(إظلام).
(9)
(نجد سندان جالسًا على مكتب صيوان.. يندهش صيوان من ذلك).
صيوان: أهلًا بسندان.. شرَّفت المكتب.
سندان: أهلًا بصيوان.. تشرَّفنا.
صيوان: (يضحك) كأنَّنا نتعرَّف من جديد؟
سندان: الرَّتابة يا عم.. إنَّها الرَّتابة تقضي على شعورك بالمكان والزَّمان.. ثمَّ نحن نحتاج إلى الجديد باستمرار.. ما رأيك في تغيير مدخل المكتب؟
صيوان: ليس قبل أن أستأذن من السَّيِّد استاكيوس.
سندان: ها ها.
صيوان: طبعًا.. الأمر ليس بالهيِّن.. ونحتاج لبعضنا في إقناع استاكيوس بأنَّ ليس كل ما يقال صحيح.
سندان: كلامك صحيح.. ولكنِّي أخشى أن يكون طلبة قد افتعلها أزمة ليكون في الواجهة.
صيوان: خبرته باعتباره أقدم ديناصورات الدِّهليز أظنّها تدفعه لتصديق القول.
سندان: تقول عنه هذا الكلام وأنت لا تخاف من علاقاته العنكبوتيَّة في هذا الدِّهليز.
صيوان: يا عم الرِّزق على الله.
سندان: أحسنت.. هذه الجمل هي ملاذ اليائسين أمثالنا.
صيوان: بل إنَّ اليأس آخر مرحلة تتسرَّب في داخلي.. لأنِّي ألاعبهم كلٌّ بحجمه.. وخيوط لعبتي هنا في هذا الدَّماغ.
سندان: دعني أقبِّله.
صيوان: (يمنعه) أنت مثلًا جئت لوضعي في حفرة وتنادي بعدها عليَّ الحقوا حرامي.
سندان: لا يا صيوان.. أنا.. مظلوم.. الكل يعتقد أنِّي من أتباع مطرقة.. أو…
صيوان: إذن ابلع لسانك.
سندان: بل هو لساني الَّذي خلَّف لي كلّ هذه الفوضى في كياني.. إنَّه أقصر الطُّرق إلى قلبي.. وينطق ما يخطر بالبال.
صيوان: المهم.. أنا أشفق عليك كثيرًا.. لعلمي بأنَّك أصغر حجمًا من المشكلة.
سندان: أيَّة مشكلة؟
صيوان: وهل نسيت؟
سندان: ها.
صيوان: سندان.
سندان: ها.
صيوان: ما بك؟
سندان: ها.
صيوان: تليق بك هذه الكلمة أكثر من الثَّرثرة.
سندان: ها.
صيوان: لو استمرَّ بك الهوى بهذه الكلمة.. وكرَّرتها.. ستحوِّلك إلى…(يضحك).
سندان: ها ها.
صيوان: (يضحك) مسكين.
سندان: ها ها ها.
صيوان: ها.. وصلت إلى فكرتي.
سندان: ها ها ها ها (وكأنَّه النَّهيق).
صيوان: جئت تمتطي على كتفي.. فأخرجتك تنهق.. (يضحك).
(ظلام).
(10)
(يدخل مطرقة حاملًا باقة من الورد.. يغلق الباب ويقف أمام طلبة).
طلبة: (فزعًا) لِمَ أغلقت الباب؟
مطرقة: أعرف أنَّه غير مسموح إغلاق الأبواب أثناء العمل.. وتعرف أنَّ أشنع الأفعال وأرقِّها تجري خلف الأبواب المغلقة.. تفضَّل (يقدِّم له باقة الورد).
طلبة: لي؟
مطرقة: عرفانًا منِّي بجهدك المخلص في تنبيهنا إلى ما هو مقفل من الأسرار.
طلبة: لا حاجة لي بها.
مطرقة: تعرض عنِّي؟ رغم أنِّي أريد تسوية الأمور معك.
طلبة: القسوة تحيل خيالاتنا المريضة إلى حرير.. هكذا نحن لا ينفع معنا إلَّا القسوة.
مطرقة: لا تحاول إرغامي تقبيل يديك.
طلبة: (يضحك) أنت مجنون؟
مطرقة: بل أبحث معك عمَّا يعيد إليَّ توازني.. معتذرًا عن فعل صَدَر خارج إرادتي.
طلبة: رغم اعترافك لي بأنَّك أقوى من كلِّ المشاكل.
مطرقة: الأشجار العظيمة تنحني أمام الزَّوبعة.
طلبة: وكلامك الَّذي قذفت به شرفي؟
مطرقة: لحظات الغضب أحقر ما في العقل.
طلبة: عن أيِّ عقل تتحدَّث!(يفرِّط باقة الورد).. وأنت الَّذي تدَّعي بأنَّك جبل لا تلتقي حتَّى مع الجبال.. (يرمي باقة الورد على الأرض).
مطرقة: الجبال أصبحت ملاذًا للُّصوص.. وأنا ألوذ بك أن تريحني بكلمة واحدة.
طلبة: تتهجَّم عليَّ أمام الجميع وتعتذر منِّي فرادا؟
مطرقة: حسب علمي أنَّك ابن جلدتي.. وهؤلاء يبقون أغراب عنَّا.
طلبة: عن أيَّة أخوَّة تتحدَّث.. والواحد منَّا صار يمحو بنعاله كل معانيها.. (يحمل الورد) تأتيني بهذا الورد لتداعب عداوتي.. وتستنهض فيَّ كلمات أنبذها.
مطرقة: (يجمع الورد من الأرض) ما عهدتك أنت الَّذي تراقص الهواء وتضحك للنَّسمة.. أن تحمل في قلبك كلّ هذا الغيظ.. منِّي أنا.. إذا كانت ورودي لا تُصلح عطب لساني.. فما الَّذي يصلح بيننا؟ تعلم بأنِّي لا أطيق احتمال مهيني..أقدِّم لك كلّ هذا الورد.. وأنت تحيله نثارًا بدعوى أنَّك تساوي بين الأخوَّة والحذاء.
طلبة: (مصحِّحًا) النَّعال.
مطرقة: النَّعال.. (يضربه بوجهه بما جمع من الورد.. ويخرج من الباب.. يلتقي بقوقع الَّذي وقف يتلصَّص).
قوقع: ها.. كنتم تتحدَّثون عنِّي؟
مطرقة: لا.. عن النَّعال.. (يذهب).
قوقع: أكيد أنا المقصود (يلحقه).
(إظلام).
(11)
(سندان قرب مكتب مطرقة).
سندان: لا تبتئس.. فأنت رائع في العفو.. وذهبت إلى طلبة كي تنفض غبارًا.. وتقشع غيومًا لبَّدت صفاء قلبه.
مطرقة: هذا ما كان في رأسي.
سندان: وإذن ففعلك الرُّجولي لا ينقصه رفضه.
مطرقة: هذا ما كان في رأسي.
سندان: وخلافًا لما جرى.. فهو مُدان كونه خالٍ من مقدرة العفو.
مطرقة: هذا ما كان في رأسي.
سندان: ربَّما بابتعادك عنه أراد أن يصوِّب طعنة إلى قلب القوَّة في هذا الدِّهليز.. والَّذي هو أنت.
مطرقة: هذا ما كان في رأسي.. (يمسك رأسه كأنَّه يعاني من ألم).
سندان: وإلى سيل أفكارك الَّتي تريد منها أن تقلب ميزان الدِّهليز إلى جنَّة.. جعله يخاف صلحك.
مطرقة: هذا ما كان في رأسي.
سندان: إذن عليك أن تنفذ إلى ضعفه باعتبار أنَّه وبكلِّ هذا الغرور.. يوهمك بصلابة هي ليست من صفاته.
مطرقة: هذا ما كان في رأسي.
سندان: وتعلم أنَّ المتكبِّر كالصَّاعد على الجبل.. يرى النَّاس صغارًا وهم يرونه صغيرًا.
مطرقة: هذا ما كان في رأسي.
سندان: وتعلم أنَّ القمامة نتيجة لكدسها ترتفع فتصبح جبلًا.
مطرقة: هذا ما كان في رأسي.
سندان: إذن لا تشغل رأسك بقمامة كل تاريخها فضلات.. وكل مستقبلها الحرق.
مطرقة: هذا ما كان في رأسي.
سندان: فإذن طلبة لا يعدو كونه بوق لا ينطق إلَّا ما يمليه عليه خياله المريض.
مطرقة: هذا ما كان في رأسي.
سندان: والخيالات المريضة تزدحم في الرُّؤوس الفارغة.
مطرقة: هذا ما كان في رأسي.
سندان: إذا كان كلّ ما قلت في رأسك.. فما الَّذي عقد لسانك؟
مطرقة: (ينتبه) لأنَّك لساني.
سندان: كثيرًا ما يدور هذا في رأسي.. (يضرب رأسه بقوَّة).
مطرقة: وقلمي الَّذي يخطُّ ما أفكِّر.
سندان: هذا ما دار في رأسي.. (يضرب رأسه بقوَّة).
مطرقة: إذن فرأسي حين ينفجر بفكرة.. (يضرب رأسه أيضًا).
سندان: فعليَّ قولها.. وليذهب بعدها رأسي إلى الدَّمار.. (يضرب رأسه).
مطرقة: لا تضرب رأسك.. فإنِّي أحس بألم مضاعف في رأسي.
سندان: كيف لا أضربه وأنا أريد أن أخرجك منه.. لأنَّك تسكنه.. (يضرب رأسه).
مطرقة: توقَّف.
سندان: دعني.. دعني.. (يضرب رأسه).
مطرقة: لا تضربه وإلَّا اختلَّ عقلك.. (يضرب رأسه).
سندان: ما دمت تتعكَّز عليه.. فلابُدَّ من كسر عكّازه.. (يضرب رأسه).
مطرقة: أنت بهذا تدفعني للجنون.
سندان: بل أنا المجنون.
(قوقع يدخل فجأة، الاثنان يتوقَّفان عن الحركة).
قوقع: أكيد كنتما تتحدَّثان عنِّي.. (يضرب رأسه).. تتحدَّثان عنِّي أكيد..(يستمر بإعادة هذه الكلمة وضربه لرأسه).
(إظلام).
(12)
(قوقع في بقعة ضوء).
قوقع: عالم مجنون هذا الدِّهليز.. الهذيان صار طعام يومي.. وأخاف أن أفصح عمَّا في داخلي.. فينقلب ذلك عليَّ اتِّهامًا.. ولكن هل عليَّ أن أحبس ذاكرتي في هذا الصَّمت؟ فأنا أعاني من وجوه أتعبها الكذب.. وأعياها كره النَّفس.. تلك مجزرة نرتكبها بحقِّ أنفسنا قبل الآخرين.. لو يدري الهواء أنَّه سيتشكَّل كلمات ملساء توقع برؤوس ورؤوس.. وتشلّ الألسن عن كلِّ ما هو حقيقي.. لاستحال ماءً حتَّى يذيب كلّ فكرة عفنة.. لابُدَّ لي أن أقول الَّذي في قلبي وليأخذ كلٌّ استحقاقه.. عليَّ الذَّهاب إلى السَّيِّد استاكيوس.
(يتَّجه إلى المكان المخصَّص لاستاكيوس.. فيوقفه طلبة).
طلبة: ها.. تسعى للتَّسلُّق إلى أعلى الهرم.
قوقع: حقائق تتكدَّس في قلبي وعقلي.. وعليَّ أن أفصح عنها.
طلبة: تفصح عن السَّرقة الَّتي مازالت غامضة؟
قوقع: هي.. هي.. إنَّها خطأ وليست سرقة.
طلبة: والسَّرقة أليست خطأ فادحًا؟
قوقع: بالتَّأكيد.
طلبة: فما بالك مرعوب من قول الحقيقة؟
قوقع: كل الفواتير المزوَّرة جاءت عندي.. وعليَّ تدقيقها.. وبالقلم الأحمر.. ولابُدَّ من وضع توقيعي.. والختم أيضًا.
طلبة: قل لي من هو؟
قوقع: البلوى تزحف باتِّجاهك.
طلبة: لو أنَّ الأمر يدخل من نافذة مكتبي.. فاعلم أنِّي سأقتلعك مثل ضرس منخور.
قوقع: أرأيت.. ها أنت تدفعني لقول الحقيقة بيد.. وتكمِّم أنفاسي باليد الأخرى.
طلبة: ولكن ليس أن تتَّهمني.
قوقع: أنت تعهَّدت بإرجاع الخسائر القديمة.. ولم تنفِّذ.. وعينك ترى.. ها هم يتوافدون على السَّيِّد استاكيوس ليفرغوا ما في أفواههم في أذنه.
طلبة: يتقوَّلون عليَّ.. ويكذبون.
قوقع: لا تنفعل.. فهدوئك كافٍ لمعرفة.. من هو.. الـ…
طلبة: اصمت.. عرفته.
قوقع: وإذا…
طلبة: سأقلب الدُّنيا على رأسه.. وسأجعله يأتيني زاحفًا على ركبتيه.
قوقع: جاءك بالورد وطردته.
طلبة: تعرفه؟
قوقع: لا أريد أن يُذكر اسمي..أنا كل غايتي أن تتآلف القلوب.
طلبة: كيف.. والزَّمن أحالها إلى قيود وليس قلوب!
قوقع: كل ما نحتاجه.. الهدوء.
طلبة: كل ما نحتاجه.. أن نطفئ نارًا ربَّما ستلتهم هذا الدِّهليز..إذا ما عرف استاكيوس كل هذه الخروقات الماليَّة.. ابحث لي عن مخرج.. (يخرج).
قوقع: تخاف من السَّيِّد استاكيوس وهو الَّذي يلتهم الرُّز مع التُّراب (يلتفت خائفًا) ها.. ما الَّذي أطلق للساني العنان في الحديث مع طلبة.. اللَّعنة.. سيُفتضح أمري..وبالتَّأكيد سأُصبح وجبة دسمة في لقاءاتهم.. ربِّي..أسعفني في ألَّا أكون مقصودًا في أحاديثهم.. واجعل ألسنتهم تنطق عنِّي عسلًا وسكَّر.. (يتلصَّص ويذهب باتِّجاه استاكيوس).
(إظلام..وصوت لغط ناس).
(13)
(يخرج صيوان من جهة استاكيوس).
سندان: صيوان.. أراك منتشيًا.
صيوان: تعرف أنَّ الكلام مثل الهمّ فوق القلب.. ولابُدَّ من إزاحته.
سندان: لا أحد يخاف عليك.. أنتذكي وتلعب في كلِّ الزَّوايا.
صيوان: السَّيِّد استاكيوس أقام الدُّنيا ولم يقعدها.. حين علم بأنَّ الممتلكات العامَّة أصبحت مجالًا للعبث.
سندان: وما شأنك أنت بكلِّ ما يجري؟
صيوان: يجب أن تفهم يا فاهم.. إنَّ الَّذي لا يدرِّب حنجرته على كلام الكذب.. والَّذي لا يُحصِّن نفسه بوجه حديدي أمام الآخرين.. فسيقال عنه ساذجًا بليدًا.. ويمكن أن تتخطَّاه مثل أيَّة قمامة ملقاة على الأرض.
سندان: دائمًا تلمِّعون واجهات أقوالكم.
صيوان: حتَّى تبقى نفس الوجوه وبنفس إطاراتها.
سندان: حاشا أن تلعق الأرض الَّتي تمشي عليها أقدام من لا تشرق في وجوههم لحظة صدق.
صيوان: ما هذا الهذيان؟
سندان: كما أسلفت.. هي كلمات تكدَّست وأصبحت جبالًا من الهموم نسعى لها وهي تهرب منَّا.. فإنَّا لا نفوِّت فرصة اقتناص الألم في عمر نفتِّته بين سماع كلمات بوزن القذارة.. وبين استمالة من يحكم طوقه على أعناقنا.
صيوان: أرى بين طيَّات كلامك.. مشاعر كره تختبئ.
سندان: فسِّرها كما تشاء.
صيوان: مَن المقصود؟
سندان: ربَّما أقصد نفسي.
صيوان: لا.. ولكن إذا أردت النَّصيحة.. فأجِّل الآن دخولك على السَّيِّد استاكيوس.. فهو غاضب جدًّا.
سندان: ما دام غاضب فمعنى هذا أنَّني أستطيع أن أقول ما في جعبتي.. فيصدِّق ما أقول.. لطالما كانت لحظات الغضب ممرًّا لكذبات صغيرة.. تمتلك عظمتها بعد حين.
صيوان: ومن المستهدف؟
سندان: كلّكم.
صيوان: تعال يا “خوية”.. أنت حينما تقول ما تقول.. فإنَّ قولك لا يعدو كونه نثارًا.. مقابل ما قلته عنك أمام استاكيوس.
سندان: هل تريد أن ترمي بي إلى التَّهلكة!(يهجم عليه لخنقه).
صيوان: إذن لماذا تريد وضعي مع الآخرين في نفس قفص الاتِّهام الباطل؟
سندان: وأنت السَّبب في كلِّ هذا اللَّغط وهذه المشاكل.
صيوان: بل كل واحد منكم له مشكلة مع نفسه.
سندان: نحن؟
صيوان: أنتم مرضى.. كلّكم مرضى.. من قلق يسكن خلاياكم ويدفعكم للتَّفكير الأعوج.. من أنَّ ثمَّة عيون تترصَّدكم.. وربَّما ستوقعكم في الهاوية..(يذهب).
سندان: أنت خطر.. جدًّا.. ولا أعتقد أنَّك تستغل كل عقلك.. لأنَّ كبرياءك سرق منه الكثير.. ولم يبق لك إلَّا ابتسامات زائفة توزِّعها على أناس تشتمهم في داخلك.. إذن أنت المريض وعلاجك عندي.
(يذهب باتِّجاه مكتب استاكيوس.. صوت لغط كلام وأناس يتحدَّثون بهمس).
(إظلام).
(14)
(في غرفة مطرقة).
مطرقة: لم يبق أحد لم يقدِّم طاعته لاستاكيوس.. وكأنَّ الأرواح معلَّقة برضاه.
قوقع: لا أريد أن أفلسف الأمور لك.. فإنَّ ما خُفيَ كان أعظم.
مطرقة: أنت الآخر تعلَّمت أن تدسّ السُّم في الحليب.
قوقع: وهل وجدت ما يوحي بالحليب هنا في هذا الدِّهليز؟
مطرقة: أنت الصَّادق.. من أين يأتي الصَّفاء وقد دُنِّسَت طهارة القلوب.
قوقع: جئتك بمشروع.
مطرقة: عمل خارج الشُّغل الرَّسمي؟
قوقع: ومن أين أجيء لك بـ…
مطرقة: فهمت.. يكفي.. قل.. فلقد أثقلني سندان بأفكاره الفارغة.
قوقع: ماذا لو اجتمعتم بغية صفاء القلوب.
مطرقة: مع من؟
قوقع: أنت وطلبة وسندان.. وإذا أضفتم الصّيوان القابع عند مدخل الدِّهليز فالأمر متروك لكم.
مطرقة: لا.. فصيوان هذا يجب أن يعرف حجمه جيِّدًا.. وألَّا يناطح الجدران الصَّلدة.. فما هو إلَّا ذبابة تطنُّ عند مدخل استاكيوس.
قوقع: إذن.. لابُدَّ لنا من لقاء.
(صوت لغط مع الموسيقى).
(15)
(سندان ومطرقة وطلبة.. يقفون لتشكيل مثلَّث.. في الزَّاوية يقف قوقع فرحًا).
قوقع: (في بقعة ضوء) بهذه الوقفة ستُحَل مجمل الأمور.. فربَّما يقعون هم الثَّلاثة في حبائل الخطيئة..مادام كل واحد منهم يسعى للإيقاع بالآخر.
(ثلاث بقع ضوئيَّة على الثَّلاثة).
سندان: إنَّ ما يثار في هذا الدِّهليز أمر يدعو للعجب.. فليس من المعقول أن نقود أنفسنا إلى التَّهلكة.
مطرقة: الأمر تعدَّى القول وأصبح اتِّهامًا.
طلبة: الفواتير والأموال العامَّة تضعنا على مذبح التَّساؤل.. فليس الأمر بالهيِّن إذا ما لصقت تهمة بأحدنا.
مطرقة: لو أنَّك يا طلبة كنت قد وزنت الأمور بميزان التَّعقُّل.. لما حدث هذا الخلاف بيننا.
طلبة: إذا كان كل منَّا ينظر إلى نفسه من علياء.. فإنَّ جلّ ما يفكِّر به هو إسقاط الآخرين.
مطرقة: لم تطأ أقدام هذه الفكرة مخيِّلتي.
طلبة: فمن قال لك هذا الهوس من الكلام؟
سندان: لا أعتقد أنَّ من سجايا مطرقة.. وأنا أتكلَّم غير منحاز له.. أن يقول عنك مثل هذا الكلام.
طلبة: بل ومنه أشنع الكلام قد وصل إلى السَّيِّد استاكيوس.
مطرقة: كلٌّ أفرغ ما بجعبته في أذن السَّيِّد استاكيوس.. وها هو ينظر إلينا كأطفال.. كلٌّ يدافع عن دميته.
سندان: لا أستبعد أنَّ ثمَّة شخص وراء كل هذا الهراء.
طلبة: لو أنَّك اتَّخذت من المكاشفة سبيلًا للكلام معي.. لما بقيت أفكارك عالقة بالسُّوء.
مطرقة: اضطررت إلى قول بعض الكلمات.. أردت منها أن أثير انتباهك.
طلبة: على ألَّا تصل إلى الشَّتيمة.
سندان: دعونا من هذا.. فالشَّتيمة الكبرى ذلك الاتِّهام بالسَّرقة.
مطرقة: مَن سرق مَن؟
سندان: لا أدري.. كلام يدور في جنبات الدِّهليز عن أمور تتعلَّق باشتراكنا في ضياع المال العام.
مطرقة: وما صمت استاكيوس إلَّا بداية العاصفة.
طلبة: بل قل عواصف أثارها غبي.
(في الزَّاوية صيوان يتكلَّم بالهاتف لوحده دون الموجودين).
صيوان: قل.
مطرقة: مَن قال لك هذا القول؟
صيوان: قال لي…
طلبة: القول الحق أنَّ ما قيل.. مقولة قيلت لإيقاع بعضنا ببعض.
صيوان: يقولون…
سندان: قولوا ما تقولون.. و…
صيوان: قلها.
مطرقة: القال والقيل تقلع الصُّلب من موقعه.
صيوان: قالها.
طلبة: وإذن ما قلته قليل.
صيوان: وما قيل؟
مطرقة: أقل من القليل.
صيوان: لا تقل.
سندان: والقليل يصبح أقاويل عندما لا يرحم ناقل القول.
صيوان: قالوها.
طلبة: وليس من الصُّعوبة اكتشاف المتقوِّل.
صيوان: ما قاله قليل؟
مطرقة: قل لي كيف تصدِّق ما قيل دون أن تسمع ما قلته!
صيوان: أقاويل.. أقاويل.
سندان: لأنَّ أقل ما يكتشفه في القول القليل.. يعتبره قصَّة تقوِّض مقاله.
صيوان: لا تقل له.
طلبة: هل اكتشفتم القائل؟ إذا كانت قولتك غير مقصودة.. فقل.
صيوان: يُقوِّلُك؟
سندان: بل يعرف القول والقائل.
صيوان: إذن قل ما يقول.
مطرقة: وسأقول لك ما قاله.. فنحن أصدقاء.
صيوان: قل ما في قلبك.
الثَّلاثة: قال أقاويل.. ما قيلت من قبل.. ولابُدَّ من قولها لاستاكيوس.
صيوان: أقوال لا يقلها إلَّا قليل الـ…
(يخرج الثَّلاثة.. واحد تلو الآخر.. وهم يصفعون وجه قوقع).
قوقع: قاق..قاق.. قاق.. قاق.. قلت.. إنَّ كل ما قيل.. سيقولون إنِّي قائله.. الذَّنب ذنبي أنِّي أفعل قيرًا.. أقصد خيرًا.
(لغط أصوات.. وإظلام).
(16)
(لغط كلام يعلو.. يخرج السَّيِّد استاكيوس وقد أصبحت أذنه أكبر حجمًا من الطَّبيعي.. وتُعالَج بالمكياج).
طلبة: (يتقدَّم له مسرعًا) احتمالات كثيرة تؤكِّد أنَّ ما سُرِق من المال العام لا يخرج عن دائرة الدِّهليز.
استاكيوس: كفى ضجيجًا.. مَن أخبركم بالسَّرقة؟ عن ماذا تتحدَّث؟
مطرقة: هي إشاعة قيلت.
سندان: بل أكَّدوا مصداقيَّتها.
استاكيوس: ومن أخبركم؟ ليس ثمَّة ما هو مسروق.. إنَّما سرقتكم سخافات الخوف.. والطَّعن الَّذي يتسلَّى بلحمكم حين يلتهم بعضكم البعض.. لقد أرجعتمونا إلى مشاعية البدء.
صيوان: لا يا سيِّد استاكيوس.. الفرق فيما تسعى إليه أنت من ألفة.. وبين نمط حياتهم الَّذي حوَّل قلوبهم الغبيَّة المخدوعة إلى خدمة أجساد لا تقوى على حفظ أسرارها.. فانفجرت تلك القلوب عن مهزلة.
استاكيوس: ومن طلب منك أن تزوِّق الكلام؟ من طلب من مهزلة مثلك أن تتحدَّث عن نفسها؟ من طلب منك أن تتصرَّف بذكاء غبي لا يليق بك؟
طلبة: (يضحك) مفردة غريبة هذه.. ذكاء غبي.
استاكيوس: أقوالكم تثقل أذني وتتوغَّل بقوَّة المقتحم إلى روحي.
طلبة: لا أحد يخفي ولاءه لك.
استاكيوس: لست بحاجة إلى ولاء نفوس مريضة.
مطرقة: كيف نثبت لك أنَّنا لم نسرق شيئًا؟ وأنَّ كل ما حدث ملفَّق.
استاكيوس: ومن اتَّهمكم بالسَّرقة! أحسُّكم دمى تتحرَّك أمامي.. وفي كلِّ يوم أقول ستكبر هذه الدُّمى لتصبح رجالًا.. ولأنَّكم مصرّون على أن تهرولوا جميعًا خلف كذبات تنقص منكم وتقزِّمكم.
سندان: إذن.. لا يخلو الأمر من قناعتك بما وقع.. أبدًا.
استاكيوس: بل هي كلماتكم.. همساتكم.. قتال بالكلام من الوزن الثَّقيل.. هو الَّذي أسقطكم الواحد تلو الآخر.. كل واحد منكم أراد أن يحتمي بقلعة واهية.. هي التَّقرُّب منِّي.. تعاليا قوقع.
(يدخل قوقع مسلوب الإرادة).
قوقع: نعم.
استاكيوس: أخبرهم عن سرقاتهم.
طلبة: قوقع؟!
قوقع: (يشير إلى طلبة) أنت سرقت منِّي راحة فكري.
طلبة: فليس ثمَّة ما هو موثَّق بإدانتي.
قوقع: أنا أدين نفسي.. أن أنبهر بواحد مثلك.. أخافه طول عمري.. وإذا به يختبئ مثل فأر.
مطرقة: قوقع!
قوقع: وأنت سرقت منِّي روحي.. فردّها إليَّ.
سندان: صديقي قوقع.
قوقع: في هذا الزَّمن المثلوم.. باتت الصَّداقة إنذار دائم بنوايا تخرجنا من آدميَّتنا.. أليس هذا قولك؟
استاكيوس: الآن عرفتم.. إنَّ كل وهمكم لا يحتاج إلى ثرثرة.. نشبت مخالبها في دماغي المثقل.. أحس بضوضاء تزدحم في سمعي وفي بصري.. أراكم استبدلتم كل دمي.. بكلمات ولغط ليس له أوَّل.. ولن يكون له آخر.
(يخرج استاكيوس).
(تتجمَّد المجموعة في مكانها.. تدخل إلى المسرح وعبر الدِّيكور..”منظِّفة الأذن” وهي خشبة مدوَّرة وبطول ثلاثة أمتار.. تدخل فتضرب المجموعة.. الواحد تلو الآخر.. فيسقطون جميعًا.. ثمَّ تنسحب إلى الخارج وقد تعلَّق بها الجميع.. الَّذين يُقذفون إلى الخارج).
(يعمُّ الهدوء.. ثمَّ موسيقى صافية اللَّحن.. وإضاءة برَّاقة).
(البداية).
* محمود أبو العباس (العين – الإمارات العربيَّة المتَّحدة)
نهاية العام 2003
ملاحظة جد هامة:
كل من يتصدى لإخراج هذا النص يجب ان يحصل على موافقة الموقع في شخص مديرته (بشرى عمور) تحديدا
فالرجاء الاتصال على:
الهاتف/ الواتساب: 00212665069189
الأيميل: alfurja.com@gmail.com