سيرورة النص المسرحى السودانى / السر السيد

مقـــــدمة:

تسعى هذه الدراسة للكشف عن مسيرة وسيرورة النص المسرحى السودانى وهي إذ تفعل هذا لا تنسى أن تنطلق من تساؤلات مفاهيمية كثيرة لعل أهمها: إذا كان الاقتباس والترجمة عند الرواد ضرورة أملاها الظرف التأسيسي للمسرح في الوطن العربي فما مبررات الاستمرار فيهما بعد قرابة القرنين من لحظة التأسيس؟ أو هل يعتبر الاقتباس والترجمة تهميشاً وتغيبا بقصد أو بدون قصد للتأليف المسرحي ” الأصيل” باعتباره رؤية خاصة للواقع تمتلك أدواتها النصية الخاصة؟ أو إذا كانت كل لغات العرض المسرحي ( تمثيل/ إضاءة/صوت/حركة/ “ديكور.. الخ” قد تم الالتفات إليها وتطويرها ما عدا النص الذي ظل يراوح مكانه فهل يعتبر هذا تحجيماً وحصراً له في دائرة العرض!؟ أو ما مدى أمانة الفعل الاقتباسي والترجمي في اشتغاله على النصوص الأصلية؟ بمعنى هل نجح في ذلك ام أنه قد مصورة مشوهة له ونسخة رديئة عنه.

أقول: أن الدراسة وهي تحاول الكشف عن مسيرة وسيرورة النص المسرحي السودانى منطلقة من مقاربة هذه التساؤلات، لن تنظر لتجارب النص المسرحي السودانى وتحولاته (اقتباس/ إعداد/ ترجمة/ معالجة/تأليف) كمراحل أو كجزر معزولة عن بعضها يحكمها مسير تعاقبي وإنما ستنظر لها في سيرورتها وتحولاتها المتزامنة وكذلك لن تنظر له أى النص في حضوره العام كظاهرة وكتجربة في مسيرة التأليف بشكل عام وانما ستنظر له من خلال تجربة المؤلف الفرد وموقعه في تجربته… أيضاً لن تنظر إلى النص المسرحي السودانى في مقابلة مع التجربة الغربية وإنما ستنظر له فى تاريخه الخاص بمعنى تاريخ النص المسرحي السودانى ولعل أهمية هذه النظرة تكمن في أن الكثير من البلدان العربية ينهض تاريخ النص المسرحي عندها على اقتباسات من تجارب عربية وليست غربية… أخيراً والدراسة وهي تبحث في سيرورة النص المسرحي السودانى لا ترى أن إشكالاته تكمن فقط في وقوعه وحصره في دائرة العرض فقط وإنما هنا كأسباب أخرى لهذه الإشكالات ومن هنا لا تطمح في أن تختلف أو تتفق مع التساؤلات المذكورة آنفا وإنما تطمح في حدها الأقصى أن تتدخل تدخلاً حميداً يفجر تلك التساؤلات بما يُمكن من إنتاج معرفة جديد ة بالنص المسرحي السودانى.

مدخـــــــــــــل:

أجدني لا أتعاطف مطلقاً مع مقولة (وافدية) المسرح على الثقافة العربية وذلك بسبب أنها تستطبتن موقفاً ( تأصيليا ) محصلته البحث عن شكل عربي للمسرح ولأن المقولة لا تقف عند هذا الحد المشروع نوعاً ما، بل تتعداه إلى إنتاج مقولات تشكك في المشروع المسرحي القائم بالفعل في البلدان العربية وتعزو كل إشكالات المسرح إلى وافديته،هذه “الوافدية”  التى كانت واحدة من أهم المقولات التي لم تساعد على إنتاج معرفة حقيقية بوضعية المسرح، كما انها اى مقولة الوافدية استطاعت أن تستوطن في الذهن المسرحي وحده وهنا مكمن خطورتها، فنحن مثلاً لا نجدها في الراوية على الرغم من أنها وافدة على الثقافة العربية ولا نجدها في الشعر الحديث ولا نجدها في مناهج النقد الحديثة، بل لا نجدها حتى في السياسية التى حكمت دولنا الحديثة ودونك النظر على سبيل المثال لا الحصر إلى ما يعرف بالتعليم الحديث وإلى البرلمان وغير ذلك من مكونات الدولة الحديثة…

أجدني هنا منطلقاً من فكرة أن علاقتنا بالغرب لم تجلب لنا المسرح فقط وإنما جلبت لنا غيره في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وهذا الاستجلاب فرضته تحولات تاريخية أهمها الاستعمار وبعد ذلك العيش في عالم فرص التواصل فيه باتت متاحة، وهنا أود أن أشير إلى أنني لا أنفي علاقات القوة بكل ما تحمله من دلالات ونتائج ولكنني أنظر إلى الأمر من زاوية أخرى هي زاوية ما يمكن أن نسميه ( بالمثاقفة ) أو الحوار الحضاري الثقافي حتى وإن لم يكن متكافئاً، وهنا أقول: إن الاتكاء على فرضية أن مارون النقاش هو من استنبت المسرح فى الثقافة العربية دون استصحاب النظر اليه كذات مبدعة وليس فرد او دون استصحاب النخب العربية وخاصة الفاعلة فى مقاومة المستعمر والمساهمة فى التنوير وصناعة الحداثة على الأصعدة كافة، إتكاءً ينقصه الكثير من التفكير العميق فالمسرح ما كان له أن يستوطن في مجتمعاتنا لولا النخب التى درست في مدارس المستعمر ولولا إدماجه في المشروع التحرري الذي كانت تعيشه البلدان العربية … يقول د. سعيد الناجي : “سيظل المسرح في خريطة الأجناس التعبيرية في العالم العربي رائد الحداثة والتجديد … أنه الجنس الذي افتتح تحديث الكتابة العربية منذ أواسط القرن التاسع عشر في وقت كان الشعر يخطو حثيثاً نحو استعادة القصيدة العربية القديمة عبر مدرسة الإحياء التي حاولت التنصل من سلطة القصيدة الدينية وفي وقت كان السرد ينتظر محاولات محمود تيمور ونجيب محفوظ … أما السينما فلم تكن ظهرت في موطنها الأصلي بعد …

هكذا كان المسرح سباقاً إلى ما سمي بالحداثة في الكتابة العربية وهذا الطابع الحداثي هو الذي دفع رواد النهضة إلى الخوض فيه كتابة وترجمة لأنه كان يستجيب لمشروعهم الهادف إلى التجديد والتحديث… تحديث المجتمع وتحديث أدواته التعبيرية … الى ان يقول: سيحاول إذا رواد النهضة أن يغامر وافي الكتابة المسرحية مراهنين على صواب ذلك السبيل لتحريك العقول وشحذ الهمم” (1)…. لذلك لم يكن مصادفة أن ترتبط الإشارة لأول عرض مسرحي في السودان بالشيخ بابكر بدري 1856_1954, أحد أعمدة التعليم الحديث في السودان ورائد تعليم المرأة وقبل كل شيء هو الذي قضى بعضاً من عمره أسيراً في مصر بسبب حروب المهدية في ذلك الوقت 1885_1898, وهو الذي شارك أيضاً في معركة كرري آخر معارك المهدية ضد الاستعمار الانجليزي 1898 م والتي بعدها تم احتلال السودان ولم يكن غريباً كذلك أن ترتبط الإشارة لأول نص مسرحي بمأمور “القطينة” عبد القادر مختار المصري الجنسية واحد موظفي الإدارة البريطانية ونعني نص مسرحية “نكتوتا والمرشد السوداني”.

أخلص في هذا المدخل إلى أن مجرد أن يقدم سودانيون مسرحاً فهذا مسرح سوداني أو أن يقدم جزائريون مسرحاً فهذا مسرح جزائري… مسرح سوداني أو جزائري أو مصري محكوم بشروط هو منطقه الداخلي وأسئلته الفنية والمجتمعية والأهم من كل ذلك غير منفصل عن محيطه الإقليمي والدولي، فالمسرح الآن وفي كل مكان متأثر ومؤثر علي بعضه والذين يعتقدون أن صلة المسرح العربي بالمسرح الغربي مرتبطة فقط بنشأته ويتناسون أن المسرح العربي لا يزال يتأثر بالمسرح الغربي والذي هو بدوره يتأثر بثقافات أخرى، إن لهم أن يراجعوا هذه الفرضية، عليه لا يمكن النظر للمسرح السوداني وتحديداً الى تجربة النص المسرحي إلا عبر هذه المؤثرات سواء كانت عربية أم افريقية أم غربية فوفق اًلافتراضي الأساس أن لدينا مسرحاً سودانياً وليس مسرحاً في السودان … مسرح سوداني نشأ  أو تطور وفق شروط الحياة السودانية ووفق شروط الحياة المسرحية وهو ما يجعل النظر إلى واقع النص المسرحي محكوماً براهن تطور الحياة المسرحية في السودان وليس بأي شيء خارجها، مع ملاحظة أنني لا أنفي جدلية التأثير والتأثر، فالمسرح السوداني على كل حال ليس بعيداً عما يدور في مسارح العالم، فكما تقول الدكتورة ماري الياس: “انفتح المسرح جغرافياً على العالم فاستعارت المسارح من بعضها على الرغم من أن المسرح لا يزال الفن الأكثر ارتباطاً بالمكان والهوية.. إلى أن تقول : إذا كان دور الكتابة قد تراجع اعتباراً من بداية القرن الماضي وتفاقم هذا التراجع بعد الخمسينيات لصالح نص المخرج في العرض وطرأ تغييراً على شكل وجود المؤلف المسرحي الذي رافق المخرج وكتب لصالحه نصوصا بناء على طلبه أو أنه سمي معداً بعد ذلك،الخ… فأن الكتابة لم تتوقف نهائياً إنماا نحسرت ثم عادت بقوة إلى مواقعها” (2)

خــــارطة النص المسرحي في السودان :

لن انشغل هنا بالتسلسل التاريخي للنص المسرحي في السودان وإنما سأنظر له في سياقه الكلي كعنصر من عناصر العرض عبر مسيرة المسرح السوداني منذ بداياته وإلى الآن وذلك لأن الصيغ التي عبر من خلالها بقدر ما كانت متعاقبة كانت متزامنة رغم ما حكمها من جدلية التواصل والانقطاع خاصة في بداياتها الأولى فإذا كانت الصيغ التي عبر من خلالها النص المسرحي السوداني في سياق تطوره هي الاقتباس والتعريب والترجمة والاعداد والسودنة والارتجال والتأليف “الأصيل” فأننا سنجد أن هذه الصيغ مازالت تشكل خارطته مما يعني أن صيغ الاقتباس او التعريب أو السودنة لم تكن بسبب ضرورات البداية فقط، وإنما الأمر يتعدى ذلك إلى ضرورات تتعلق بالكتابة نفسها كشكل إبداعي وضمنا الكتابة المسرحية، فالتجربة السودانية تشير إلى ان البدايات الأولى استخدمت الارتجال كصيغة لصناعة العرض، كما فعل الشيخ بابكر بدري في مسرحيته “المقعد” التي عرضت في مدينة رفاعة جنوبي الخرطوم فى العام 1903 بهدف المساهمة في بناء المدرسة الأولية للبنين هناك، أو كما فعل مامور القطينة المصري الجنسية الذي كان واحداً من موظفي الإدارة البريطانية عندما الف مسرحية “المرشد السوداني” تلك المسرحية التي تحث المواطنين على الانخراط في التعليم الحديث “المدارس” والتى عرضت فى مدينة القطينة جنوبى الخرطوم في العام 1910 م وقد كانت تأليفاً “اصيلاً” زواج بين اللغة العامية واللغة الفصحى في حواراته ونشير هنا الى ان هذا النص قد طبع في نفس العام بمطبعة “فكتوريا” في الخرطوم ولا زالت ( نسخته الأصلية موجودة في دار الوثائق القومية السودانية بالخرطوم (3)… المفارقة هنا هى أن الذي تبقى من وقائع ذلك العرض التاريخي وأصبح وثيقة في متناول اليد هو نص المؤلف والمفارقة الثانية هنا هى أن تجربة النص المسرحي الأول “نص المخرج” قد ولدت عن طريق الارتجال، مما يعني أن البدايات الأولى للنص المسرحى فى السودان بصيغتيه التى تبدى بهما وهما الارتجال والكتابة لم تتمخض عن صيغ الاقتباس أو التعريب أو الترجمة أو السودنة بمعنى أنها لم تتمحض عن نصوص سابقة من المسرح الغربي أو المسرح العربي، كما سيحدث لاحقاً وهنا أجد من الضروري الإشارة إلى ما اصطلح عليه فى دراسات المسرح السودانى بمسرح الجاليات (شوام ومصريين و من غير العرب ) وهم الذين كانوا يعملون موظفين في الإدارة البريطانية وكانت لهم أنديتهم الخاصة التي لا يدخلها من السودانيين إلا كبار الموظفين، والإشارة تقول: ان الجاليات هذه قد قدمت العديد من المسرحيات باللغتين العربية والانجليزية وقد كانت إما مقتبسة أو معربة أو مترجمة وذلك في الفترة من 1905م – 1915م، وكانت هذه الجاليات تقدم هذه العروض من أجل الأعمال الخيرية ومن المسرحيات التي قدمتها  (مسرحية “شارلمان، ومسرحية “ثارات العرب” لنجيب الحداد ومسرحية “الشعب والقيصر” من تأليف جورج طنوس الذي اقتبسها عن مولير(4)..

سنلاحظ ونحن نتصفح تاريخ النص المسرحي في السودان ان السودانيين لا يظهرون بعد إشارتي 1903م و 1910م إلا في العام 1913م مع مسرح كلية غردون وهي الكلية التي أنشاها المستعمر لتجديد وتخليد ذكري غردون ذلك الجنرال الذي اغتالته الثورة المهدية في قصره فى 26 يناير 1885, ومع مسرح نادي الخريجين في الفترة الممتدة من 1918م إلى بدايات الثلاثينيات من القرن الماضي، والخريجين هنا هم من كانوا طلابا فى كلية غردون وهم الذين سيقع عليهم عبء تأسيس ما عرف بالحركة الوطنية تحديدا بعد دحر المستعمر للمقاومة المسلحة فى العام 1924 بقيادة الضابط على عبد اللطيف وجمعية اللواء الابيض.

فى هذه الفترة التي شهدت تبلور الشرائح المستنيرة وأسئلة القومية السودانية ومفاهيم الاستقلال والدعوة للتعليم خاصة تعليم البنات وشهدت كذلك نهوضاً في الكتابة الشعرية وفى النثر “الأدب” وبرز المسرح كنشاط فعال وكأداة من أدوات المقاومة والتنوير وربما ولطبيعة هذه النخب وما يتاح لها من انفتاح على ثقافات الآخرين بحكم امتلاكه اللغة الانجليزية نستطيع القول أن معظم ما قدمته هذه الطلائع كان إما مقتبساً أو معرباً أو مترجماً أو عربيا صرفاً فما نلاحظه أن هذه النخب اعتمدت على الاقتباسات والترجمات العربية السائدة آنذاك فقدموا مسرحيات “يوليوس قيصر” وعطيل “و وفاء العرب ومجنون ليلى، “ومصرع كيلوباترا”، ومسرحية صلاح الدين الأيوبي”، وغيرها من المسرحيات المقتبسة والمترجمة، إلا أن ما يفوت على اكثرية من الباحثين في تاريخ النص المسرحي السودانى وسيرورته وقد يعود هذا ( الفوتان ) الى نزعتهم التعميمية_ما يفوت عليه موجود التأليف “الاصيل” جنبا الى جنب مع الحضور الكبير للاقتباس والتعريب والترجمة، فقد شهدت هذه الفترة ذات الحضور الكبير للاقتباس والتعريب والترجمة التأليف “الاصيل” وشاهدنا هنا النصان المسرحيان ( الابن العاق والمامور والمفتش ورجل الشارع) اللذان كتبهما الاستاذ عبيد عبد النور 1896_1963, احداهم طلائع حركة الخريجين وهنا يقول د. بشر عباس بشير في كتابه الذي تمت الإشارة إليه .. يقول: ” ولقد كان لحضور عبيد عبد النور من بعثته إلى بيروت واشتغاله بالتدريس في كلية غردون أثر واضح في تنظيم الحركة المسرحية داخل الكلية ودفعها إلى الأمام فقد أولى النشاط المسرحي في الكلية جزءا من اهتمامه تأليف اًو توجيها فحاول

أن يجدد في المسرحيات التي يمثلها الطلبة قبل ذلك من المسرح المترجم أو المقتبس أو الذي ألف في البلاد العربية الأخرى وهي مسرحيات بطبيعة الحال تبعد عن واقع المجتمع السوداني ولا تمس قضايا هو هذا ما دفع عبد النور إلى سودنة بعض النصوص وكتابة بعض المسرحيات ذات المضامين الاجتماعية التي تمس حياة الناس بصفة عامة )….

ومما يفوت كذلك على البعض في تاريخ النص المسرحي السودانى ما كان يقدمه النقاد ورواد الحركة الفكرية آنذاك من الدعوة إلى الأدب القومي ومن الدعوة الى الانفتاح على ثقافات العالم، فنظرة سريعة إلى مجلتي النهضة 1931  والفجر 1934 لسانح الرواد الحركة الفكرية نلمس ذلك القلق الفكري والسياسي الذي ينم عن رغبة كبيرة في التغيير… ذلك القلق الذي تجسد أكثر ما تجسد في الأسئلة الفكرية والإبداعية والتي من ضمنها سؤال المسرح فالدعوة إلى الأدب القومي على سبيل المثال أثرت فيما بعد على مشروع النص المسرحي فبعد نشاط كلية غردون ونادي الخريجين الذي اشرنا له يعود النص السوداني ” الاصيل” مرة أخرى مع الأستاذ خالد ابو الروس 1908_1981م الذي يلقب “بأبي المسرح السوداني” وذلك عندما كتب مسرحية استندت على استلهام واحدة من الحكايات الشعبية السودانية هي حكاية “تاجوج والمحلق” وهي حكاية شعبية عن الجمال والعشق والجنون والموت تماماً كما في قصة مجنون ليلى، ولعل هذا ما دعا أبو الروس أن يقول في مذكراته غير المنشورة والموجودة في تسجيلات صوتية بمكتبة كلية الموسيقى والدراما بجامعة السودان.. أن يقول: ( أنه كتب هذه المسرحية بعد أن شاهد مسرحية مجنون ليلى لأحمد شوقي عندما عرضها طلاب كلية غردون … كتب ابو الروس هذه المسرحية بالشعر الشعبي السوداني وهو نوع من الشعر له أبنيته الخاصة التى تختلف عن أبنية الشعر العامي وعن أبنية الشعر الفصيح.

هذه المسرحية يعتبرها الكثير من الباحثين في النص المسرحي السودانى أنها النص المؤسس بمعنى أنها أول نص مسرحي سوداني لأنهم يعتقدون أن ما سبقها أما مقتبس أو معرب أو مترجم أو مسودن أو كتبه شخص غير سوداني كما في حالة مامور القطينة والأمر عندي هنا يلتقي مع تلك النظرة التعميمية التي لم تعتد كثيرا بالنصوص غير المقتبسة، كما أشرت، ويزيد عليها أي هذا الرأي في أنه يستبطن موقفاً شوفينيا قومياً عنيفاً فهو لا يعترف بالنص الذي ألفه بابكر بدر يعبر صيغة الارتجال ولا يعترف بالنص الذي الفه مامور القطينة بحجة أن المؤلف غير سوداني مع أن هذا النص زاوج بين العامية السودانية والفصحى وناقش موضوعاً سودانياً ومع أنه حقق وجودا مستقلاً عن العرض في سابقة جديرة بالتأمل بحسبان أنه تمت طباعته ولا يعترف كذلك بالسودنة ولا بالمسرحيات التي ألفها عبيد عبد النور لنكتشف محدودية هذه القراءة وعدم دقتها..

عندما ندخل بدايات الأربعينيات من القرن الماضي مع معهد بخت الرضا الذي هو مؤسسة أنشأها المستعمر لتدريب المعلمين فى العام  1934، ففي هذا المعهد سيعود الاقتباس وتعود الترجمة وتعود السودنة بقوة تحديداً للنصوص الغربية، ولكن بأقلام سودانية فإذا كانت المرحلة السابقة قد استندت على مجهودات الرواد العرب في الترجمة والاقتباس فهذه المرحلة ستشهد مساهمات السودانيين في هذا المجال فها هوالدكتور أحمد الطيب أحمد (يترجم ويسودن مسرحيات شكسبير، هاملت والملك لير، وعطيل، وروميو وجوليت، والأجزاء الفكاهية من هنري الرابع، كما يشارك الأستاذ جمال محمد أحمد في ترجمة مسرحية “جان دارك” لبرنادشو”  ويترجم أى جمال مسرحية فتي الغرب المدلل للايرلندى جون سينغ ويترجم د. عبد الله الطيب مسرحية اندروكليس والأسد لبرنادشو(5)

نشير هنا إلى أن جميع هذها لترجمات غير موجودة الآن لأنها لم تطبع!! وهنا يحدثنا الأستاذ الأمين مسمار أحد تلاميذ أحمد الطيب قائلاً: “ترجم الدكتور أحمد الطيب، يقصد _بعض مسرحيات شكسبير_ هذه النصوص لا عن تقليد وحرفية بل ترجم روح شكسبير وصاغها بالروح التي تناسب إمكانات تلاميذه وفكرهم ومزاج المشاهدين فقد كان يُضفي عليها النكات المحلية بما لا يخرج عن روح الموضوع في الوقت الذي يكسبها فيه روعة وجمالاً مما كان له أثرا كبيرا في جمهور المشاهدين…” (6)

اشير هنا إلى ان معهد بخت الرضا قد توفر على عدد من الأساتذة الذين درسوا المسرح في بريطانيا أمثال الفكي عبد الرحمن والطاهر شبيكة ود. أحمد الطيب…. هذه العودة للاقتباس والترجمة والتعريب والسودنة بعد ومع وجود النص المسرحى السوداني “الاصيل” إنما تؤكد ما ذهبنا إليه من أن الاقتباس والتعريب والترجمة على الأقل في التجربة السودانية لم تفرضها ضرورات حداثة التجربة فقط، وإنما فرضتها كذلك ضرورات تتعلق بالكتابة الإبداعية وتحديداً الكتابة المسرحية مما يعني أن النص المسرحي السودانى وإن كان لا يدين في بداياته للاقتباس أو الترجمة أو التعريب او السودنة كصيغ لصناعة العرض وإنما يدين إلى الارتجال وإلى التأليف الأصيل إلا أنه جعل الاقتباس والترجمة والتعريب والسودنة من ضمن الصيغ التي يعبر بها عن نفسه لا في مرحلة البدايات فقط وإنما في كل مراحله، فالاقتباس والترجمة والسودنة لم تكن جسراً يعبر من خلاله النص إلى أصالته ولم تكن منصة ينطلق منها إلى سودانيته  أو خصوصيته، وإنما كانت اختباراً بعث القلق في صناع الظاهرة المسرحية المحكومون بالضرورة بسياق سياسي وثقافي واقتصادي واجتماعي وجمالي، فكان قلق البحث عن اللغة المناسبة للكتابة المسرحية أهي العامية أم الفصحى أم الشعبية وكان قلق البحث عن الموضوعات والقضايا وكان قلق البحث عن مصادر أخرى للكتابة غير الواقع المعيش بل كان قلق البحث عن طرائق التلقي المناسبة …هذا القلق الذي بدأ بسؤال الكتابة/ النص كان قلقاً جماعيا طال المخرج والممثل وحتى الناقد ولم أقل المؤلف على الرغم من أهميته وذلك لأنه في الغالب قد يكون هو المخرج نفسه.

وحيث هنا أشير إلى أن سيرورة النص المسرحي السودانى وهي تستقى من هذه الصيغ المتعاقبة والمتزامنة في نفس الوقت والمتجاورة والتى تبدو كلها كخيارات متاحة لتخلق النص المسرحي لم تقرأ بالشكل المطلوب لا في السودان ولا في غيره من البلدان العربية وذلك بسبب هيمنة النظرة الشمولية للمسرح فجل كتاباتنا في التأريخ للمسرح أو النقد تلج من باب العرض وتلج من العنصر المهيمن دون البحث في العناصر الأخرى غير المرئية ولعل وبسبب هذه النظرة سادت العديد من المسلمات في دراساتنا المسرحية ومن ضمنها جعل (وافدية) المسرح سبباً في عدم تغلغله في نسيج حياة الجماهير أو تهميش المؤلف في العرض المسرحي وكأنه تهميش للنص أو تصوير الاقتباس أو الإعداد وكأنه ليس تأليفاً ( وطنيا).. هذه النظرة تنظر للمؤلف وللنص وكأنهما شيئا واحدا وتنظر لوضعية النص في العرض المسرحي ووضعيته خارج العرض المسرحي وكأنهما شيئا واحدا، ومثل هذه النظرة الشمولية عند النظر إليها في سياق تجربة النص المسرحي السوداني وسيرورته تفضح أن ما نراه من محدودية للنص تقنياً وموضوعاتياً وما نراه من اشتغال بالاقتباس أو السودنة أو الإعداد لا يتصل بالمؤلف فقط وإنما في حقيقة امره يتصل بالمخرج وقبل ذلك يتصل بمفهومنا للعرض المسرحي وتراتبية صناعه، ففي السودان كما في غيره من البلدان تسود فكرة أن اللغة الملفوظة هي اضعف عناصر العرض المسرحي وغالباً ما يقصد باللغة الملفوظة النص (الأدبي) وتسود كذلك أن تحويل نص المؤلف إلى عرضه ومن مهام المخرج ولأن جغرافية الخشبة ليست كجغرافية الورقة جاز للمخرج أن يفعل ما يريد في نص المؤلف، عليه ومن هنا أقول أن هذه النظرة الشمولية والتى حكمت مفهومنا  للعرض المسرحي هي التي أوحت لحد كبير بفكرة وجود إشكالات في النص المسرحي وهو ما لا ننفيه تماماً ولكن بالمقابل نسعى للفت الانتباه إلى انما يسمى بنص العرض الذي هو من صنيعة المخرج لا يعبر بصورة كاملة عن نص المؤلف، ومن هنا نرى أن من يتحمل إشكالات النص المسرحي من حيث محدوديته أو حتى عدم أصالته، هو الفلسفة التي يقوم وقام عليها العرض السائد وما تحمله هذه الفلسفة من تراتبية لصناعه تجعل فيما تجعل المخرج سيداً للعرض، وحيث هنا نشير إلى أن خارطة النص المسرحى في السودان وهي تتحرك في كل الصيغ التي من خلالها يمكن صناعة النص المسرحي من اقتباس وسودنة وإعداد وترجمة منذ بداياتها بل وحتى الآن إنما تفعل ذلك لإدراكها أن هذا مشروع بل وضروري ولا ينفي صيغة التأليف “الأصيل” مع ملاحظة أن كل هذه الصيغ تتجاور مع ما يعرف بالتأليف الأصيل، فنظر إحصائية سريعة لمصادر وطبيعة النصوص المسرحية التي قدمت فيما يعرف بالمواسم المسرحية التي يقدمها المسرح القومي فى السودان خاصة في عصره الذهبي تؤكد بجلاء أن النص المسرحي السودانى ان كانت له إشكالات فإنها تكمن في الفلسفة التي يقوم عليها مفهومنا للمسرح وتحديداً مفهومنا للعرض المسرحي وتراتبية صناعه فقد قدم المسرح القومي في مواسمه في الفترة الممتدة من ( 1967م – 1978م (46) مسرحية سودانية من نوع التأليف الأصيل و7 مسرحيات مسودنة من المسرح العربي والأفريقي والأجنبي و 6 مسرحيات عربية و7 مسرحيات أجنبية معربة أو مترجمة، كما قدم مسرحيتين أفريقيتين بترجمة لأكاديميين وأدباء سودانيين )(7)…هذه الإحصائية العابرة تشير إلى أن صيغ تأليف النص المسرحي غير التأليف “الأصيل” تحتل موقعاً طبيعياً مما يجعلها ضروريةً خاصة إذا تسألنا كيف يكون لحضارة وجودأ ولفن وجود دون محاورة الفنون الأخرى والحضارات الأخرى؟؟، أما فيما يخص إشكالات النص المسرحي السودانى والتي قلت أنه لا يمكن نفيها فإنني أرى أنها تتعلق بنظرتنا الشمولية للمسرح وموقع النص أو الكتابة في هذه النظرة ولنبدأ من الكيفية التي يختار بها المخرج النص، وهنا أقول وبشكل عام ان جلال مخرجين وفق التجربة السودانية يركزون على النصوص التي لا تعطي براحاً كبيراً للأفكار المعقدة وللغة الجميلة ذات الأبعاد الشاعرية الفسلفية فهم من البداية ينوون شراً بجماليات النص ويسعون إلى تجييره للغات العرض الاخرى تحت دعوى أن المسرح يرى و لا يسمع وكأن اللغة الجميلة لا ترى وكأن النص داخل العرض هو نفسه خارجه، ثم لننظر بعد هذا إلى ما يسمى بالنقد التطبيقي فنجده بالكاد يبحث في موقع النص (الأدبي) في سياق العرض فهو أيضاً مشغول بالمرئيات… رؤى المخرجين هذه ورؤى النقاد التطبيقيين هذه وما أسستاه من مفهوم للمسرح وللعرض المسرحي ساهمت بشكل كبير في أ تقبع مئات النصوص الجيدة على رفوف المكتبات خاصة تلك التي كتبها من ليس لهم انتماء مباشر لما يمكن تسميته بمجتمع المسرحيين وهذه ظاهرة نلمسها بكثرة في تجربة النص المسرحي السوداني، وكل هذا بحجة أن هذه نصوص تصلح للقراءة وليس للعرض، وفي ذات الاتجاه يفعل ما يعرف بالنقد النظرى نفس الشيء، فبرغم المساهمات الكبيرة التى قدمها النقد النظرى فى التجربة المسرحية العربية والسودانية إلا أنك بالكاد تستطيع أن تجد احتفاء بالنص وبالمؤلف عند غالبية المشتغلين بالتنظير فى المسرح وانا هنا أعني الدراسات المتخصصة لأننا قد نجد إشارات هنا وهناك لنص ما أو لكاتب ما… أقصده أننا ووقفاً لهذه النظرة الشمولية لم نتدرب بما يكفي على قراءة النصوص وتحليلها والاحتفاء بها، بل حتى لم نتدرب بما يكفي على استشعار اهمية طباعتها فكم من نصوص جميلة لفها النسيان بعد عرضها..لا غرابة هنا!! فحتى المؤسسات الأكاديمية التي تعنى بالمسرح تجدها مشغولة ومهتمة كثيرا فى مناهجها بكل ما يتصل بعناصر العرض المسرحى عدا النص، ففى كلية الدراما بجامعة السودان وهى كلية ذات تاريخ عريق يبدأ من العام 1969 لا يوجد ضمن مناهجها مادة تعنى بالكتابة الابداعية والتأليف ولا بتحليل النصوص بل لهذه الكلية سابقة غريبة تؤكد ما ذهبنا اليه من تهميش النص عند الذهن المسرحى المهيمن والسابقة هى، أن الكلية قد فصلت كاتباً مسرحيا مرموقاً التحق بالكلية لتنمية قدراته في الكتابة، فصلته لأنه رسب في مادة التمثيل العملي.

في خواتيم هذه الدراسة اصل إلى أن النص المسرحى السودانى  وعبر مسيرته لم يستشعر قلقاً تجاه أيا من الصيغ التي يمكن أن يتخلق منها وأنه عندما ننظر إلى إشكالاته والتي لا ننفي وجودها هنا وهناك فسنجد أنها لا تتصلب المؤلف وحده أو بالنص وحده وإنما تتصل بطبيعة وبنية الذهن المسرحي المهيمن الذي صنع مواضعات تجعل النص المسرحي والمؤلف يتنفسان في الاختناق، ولعل ما يجعلني قليل القلق بمستقبل النص المسرحي في السودان هو ظهور أجيال جديدة من الكتابت راهن على سعة الموضوعات وعمقها وعلى جماليات الأسلوب، بمعنى أنها تتيح براحاً مقدراً (لأدبية )، النص إضافة الى عودة الإعداد والسودنة والمعالجة النصية المسرحية والترجمة بعد غياب شبه تام في العشرين السنة الماضية، فقد ساد في تلك السنوات المخرج الذي يؤلف النص ويمثل فيه ويخرجه والنص هنا  فى الغالب هو ذلك النص الذى لا يرهق المخرج كثيرا طالما كان العرض المسرحى عنده لا يتجاوز ملء الفراغ بحركة الممثلين وبتوزيع الأشياء وتنظيمها.

 

المراجـــع:

1/ د.سعيد الناجى..البهلوان الاخير: اى مسرح لعالم اليوم_دائرة الثقافة والاعلام_الشارقة 2011.

2/ د.مارى الياس “اعداد وترجمة”..انتولوجيا المسرح الفرنسي الحديث/ج1_دار المدى للثقافة والنشر 2007.

3/ عثمان جعفر النصيرى ” ترجمة”..كراسة هليلسون: نصوص بعامية السودان العربية_مركزعبد الكريم ميرغنى الثقافى 2011.

4/ د.بشير عباس..الادب المسرحى فى السودان: نشأته وتطوره..الناشر الهيئة العربية للمسرح 2012.

وكذلك:عثمان جعفر النصيرى..المسرح فى السودان 1905_1915_المسرح القومى_ امدرمان 1970.

5/ الادب المسرحى فى السودان: نشأته وتطوره..مرجع سبق ذكره.

6/ المرجع السابق نفسه.

7/ سعد يوسف وعثمان على الفكى..الحركة المسرحية فى السودان_ وزارة الثقافة الاعلام_الخرطوم 1978

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت