قراءات في مسرح اللاتوقع الحركي القصير (الجزء الخامس)/ أ.د مجيد حميد الجبوري

 (مسرح اللاتوقع الحركي القصير) .. تفرد في الاجتهاد والابتكار

 

تُعد عروض (د. ماهر الكتيباني) المسرحية التي تنضوي تحت ما يسمى (مسرح اللاتوقع الحركي القصير)؛ عروضا مسرحية تخوض صراعَ وجودٍ مع هو قائم في المسرح الآن؛ وبخاصة مع ما يُطلق عليه تسمية (المسرح التقليدي).

إن عروض (مسرح اللاتوقع الحركي القصير) هي عروض لا تقول شيئا؛ ولكنها – في الوقت نفسه – تقول كل شيء، وحين تسأل المخرج: ما الذي تهدف اليه من هذا العرض الذي شاهدناه؟ سيجيبك قائلا: لا أدري؛ لا أعرف؛ هكذا رأيت، وهكذا صممت صوري التي أراها، وهكذا أثثت الفضاء الذي رسمته في مخيلتي؛ مسرحيتي هنا – ويشير الى رأسه – وقدمتها هنا – ويشير الى فضاء المسرح الخالي إلا من قطع إكسسوار قليلة – ويضيف قائلا :لك الخيار في أن تفهم ما تريد ؛ أو لا تفهم ؛ فأنت حر (أليست هذه حالة من حالات الديمقراطية؟!).

وعليه فأن (الكتيباني) ينقل الصراع النفسي (المختفي تماما في العرض) ويحيله الى صراع نفسي داخل المتلقي؛ جاعلاً إياه في حيرة من أمره؛ والسؤال الكبير الذي يمكن أن تثيره مثل هذه العروض هو: هل نحن بحاجة الى مثل هذه العروض؟؛ بخاصة في زماننا الذي بلغت تعقيداته مبلغا زاد عن حدود التحمل والاحتمال؛ وبعد أن غدت سمات الغموض والشك والحيرة والريبة تهيمن على كل مفاصل حياتنا الواقعية ؟!

لو راجع أيَّمتلقٍ نصوص (الكتيباني) قبل أن يشاهدها على خشبة المسرح ؛ لوجد أن مفردات (الغموض والشك والحيرة والريبة) هي المفردات المهيمنة في تلك النصوص ؛ وبما أن المفردات المذكورة هي من مهيمنات حياتنا الواقعية اليوم ؛ أذن فأن الاستنتاج الأولي الذي يخرج به دارس هذه العروض هو : أن (الكتيباني) أستعار سمات مهيمنة من الواقع ؛ وجعلها تهيمن في مسرحه ؛ فهو على هذا النحو لم يبتعد عن الواقع ؛ بل كان محايثا له ؛ إن لم يكن في جوهره ؛ وأن غاية (الكتيباني) من عروضه هذه ، هي إحالتنا – كمتلقين – الى الواقع الذي نعيشه ؛ والذي أصبحنا لا نفهم منه شيئا ؛ وعليه فان عروضه تُعد – على ضوء ذلك – استعارات من هذا الواقع اللامفهوم ؛ لتأتي هذه العروض عصية على الفهم ؛ كهذا الواقع العصي على الفهم.

بتصور الباحث ؛فإن هذا هو خطاب (الكتيباني) الذي يريد – من خلال عروضه – إيصاله الى متلقيه؛ وإذا كان الأمر على هذه الشاكلة ؛ فأن هذه العروض تعد جزءً أو صورة من الواقع الذي نعيشه ونتحرك فيه ؛ وعلى وفق هذا الفهم تصبح هذا العروض مفهومة ؛ بوصفها تتماهى مع واقعٍ عراقي غدا سرياليا أكثر من السريالية نفسها ؛ وإلا بماذا تُفسر عمليات القتل المجاني التي تحدث كل يوم سواءَ بالمفخخات أو الحرائق المفتعلة ، أو ما تمارسه عصابات السلاح المنفلت من جرائم؛ وكيف يمكن تفسير كوابيس الإرهاب بكل أنواعه سواء جاءت من عدو أو من صديق ؟! وسواء جاءت على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي؟!.. بماذا تُفسر عمليات أنتشار المخدرات والسطو المسلح ؟! والاقتتال بين الأخوة وأبناء العم على ديك أزعجهم صوته أو قفز على بيت الجيران ولقح دجاجتهم الضعيفة ؟!! وكيف تُفسر عمليات قتل الجمال سواءً تجسد في قتل صانعات الجمال أو التجميل؛ أو الفتيات اللواتي يتصفن بالجمال؛ عدا قتل جمال الأنفس والفن، وهيمنة الأزبال والأملاح والتلوث والسموم في واقعنا اليوم ماديا ومعنويا؟! كيف لنا أن نفسر بلدا يغفو على بحر من البترول والدولارات، وتهيمن فيه البطالة وتمتلأ ساحاته وشوارعه بالمتسولين والمتسولات؟!! هل هذا هو المجتمع الذي شهدنا زهوه وعنفوانه وتحضره يوما ما؟!! أم هذا مجتمع غريب عما شهدناه وعشناه كعراقيين؟  ألا نشاهد ونعيش يوميا ما لا يمكن أن نتوقعه من وقائع وأحداث تدهشنا في لحظة وقوعها، وننساها بعد لحظات بحوادث أكثر غرابة ودهشة منها ؟؟ ألم يروي لنا كاتبنا العراقي الفذ (علي عبد النبي الزيدي) حادثة كان شاهدا عليها في محلته والتي تتحدث عن أسير يعود من أسره بعد أكثر من ثمانية عشرة سنة ؛ وعند استقباله من ذويه وأهله تعانقه زوجته وتقبله بحرارة ؛ وهو يرد عليها (شكرا خاله.. الله يرحم والديج خاله) ؟؟؟؛ هذه الفرضيات هي جزء من الصرخات الدفينة المحبوسة التي تتنفس على استحياء في عروض (مسرح اللاتوقع الحركي القصير) التي أراد (الكتيباني) بها محاكاة (مجتمع اللاتوقع الحياتي الطويل!) الذي نعيشه اليوم.

وعودة الى السؤال الأول لهذه القراءة: هل نحن بحاجة الى مثل هذه العروض الآن؟

يرى الباحث– وهذا رأي شخصي للباحث ربما لا يشاركه فيه الكثيرون – إننا اليوم وسط هذا العالم الذي يغلي بالأحداث والمتغيرات المتسارعة التي لا نستطيع اللحاق بها ؛ ووسط عالم من الشك والحيرة والريبة والغموض ؛ صرنا أمام خيارات ثلاث أهونها صعب ؛ فإما أن نعود الى ما هو قديم بحجة أنه بسيط وبريء ونقي وأصيل وغير ملوث ؛ أو أن لا نكلف أنفسنا تعب التفكير بمتغيرات هذا العالم وتعقيداته وننكفأ على أنفسنا ونقطع التواصل مع هذا العالم الخطير والملوث ؛ ونكتفي بمراقبته والسخرية منه بيننا وبين أنفسنا  ؛ دونما أي مواجهة أو نقد له ؛ حفاظا على أنفسنا من الدنس والخراب ؛ أو أن نتفاعل مع هذا الواقع ونصطدم به ونواجهه ونتمرد عليه ، بعد أن غدا هذا الواقع وجودا ثقيلا يجثم على الصدور ويخنق الأنفاس ؛ ويعطل فاعلية البشر وحيويته ؛ وهذا ما يعني ضرورة ظهور أشخاص يحدثون هزة عنيفة مبنية على الإدهاش ؛ ومتسلحة بالصدمة ؛ توقظ من يدعو الى العودة الى وراء ؛ ويسير بالزمن الى الخلف ولا يتطلع الى المستقبل ، وتوقظ الذين ينكفئون على أنفسهم ويعتزلون المجتمع ؛ محافظين على ما وصلوا اليه من معارف محدودة ؛ وعلى وفق ما تقدم – يرى الباحث – أن (ماهر الكتيباني) أختار الخيار الثالث محاولا أيقاظ الفئتين (العائدة الى الخلف والمكتفية بالعزلة) من جهة ؛ وعمل جاهدا على أحداث الصدمة وأحداث الدهشة في عروضه التي تهيمن عليها أسئلة وجودية مهمة تتعلق بالشك والريبة والحيرة والغموض من جهة ثانية ؛ لذا تراه عمد على إدخال متلقيه في دوامة من الشك والحيرة والريبة والغموض ؛ وحرك دواخل هذا المتلقي وأستفز فكره ؛ وايقظ ذهنه وحفزه نحو التساؤل حول ما يشاهده ويراه ؛ وعن معناه ومغزاه ، وهل هو مفهوم أو غير مفهوم ؛ وهل هو يستحق المشاهدة أم لا يستحق؟ وهل يضيف له معرفة؛ أم يشطب على معارف يختزنها؟ ومتسائلا عن الدوافع التي تكمن وراء هذه العروض؛ وعندما تصل بنا عروض (الكتيباني) لمثل هذه التساؤلات؛ فأنها – وأقولها بمسؤولية – تكون– هذه العروض – قد حققت أتجاها جديدا في التلقي؛ وحققت أتجاها جديدا في رسم الأهداف.

في المسرح الذي ألفنا مشاهدته وبمختلف أنماطه وأشكاله وأساليبه ورؤاه الإخراجية والفلسفية ؛ نخرج – نحن المتلقين – بفهم ما ؛ وبالرغم من التباينات في وجهات النظر ؛ فأننا لابد أن نخرج بفهم نقنع به أنفسنا ونقنع به الآخرين أحيانا ؛ غير أن المشاهد لعروض (الكتيباني) غالبا ما يخرج وهو يتساءل عما أراد العرض أن يقوله ، وعندما يسأل غيره ؛ ربما يهز الآخر رأسه نافيا فهمه لأي شيء ؛ ولكن هناك وفي خلفية هذا المشهد ترى (الكتيباني) يبتسم ابتسامة خفية ؛ مناجيا نفسه ؛ قائلا: لقد حققت غايتي التي أريد ؛ لقد نجحت في نقل الصراع من خشبة المسرح الى أذهان ونفوس المتلقين ؛ ولقد جعلت هؤلاء المتلقين يتماهون – دون أن يعلموا – مع واقع غامض عصي طرفاه الحاضر اليومي وفضاء المسرح.

أخيرا يتساءل المتلقي المدعو (مجيد حميد الجبوري) للمرة الثالثة: هل نحن بحاجة الى مثل هذه العروض؟ فيجيبه الباحث المدعو (مجيد حميد الجبوري) .. نعم نحن بحاجة لمثل هذه العروض في إيامنا العصيبة هذه؛ لأمرين مهمين جدا: الأول أنها عروض تحيلنا الى الواقع اللامتوقع الذي نعيشه مذكرة إيانا به؛ ولا تجعلنا نتماهى مع فن متخيل يرسم لنا أمالاً مشرقات بالتفاؤل وتجعلنا معطلين عن الفاعلية (راضين بما قسمه الله لنا) ومطمئنين على مستقبل لا نستطيع رؤيته حتى في أجمل الأحلام وردية. أما الأمر المهم الثاني فهو: أن عروض (الكتيباني) تبشر بمسرح مستقبلي يمكن أن تصنيفه ضمن ما يسمى (مسارح ما بعد الحداثة) .. لأنه مسرح فكري جاد فيه كثير من الاشتغال الاجتهادي والابتكار الأصيل.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت