الومض وجنون الألوان في نص “انتحار ميت” للكاتب (عدي المختار) / علي حسين الخباز

امتزاج الومض بالألوان في النص المسرحي، هو دليل على وجود طاقة تعبيرية قادرة على إنتاج الموقف والمشاعر والأفكار وارتباطها باللغة التعبيرية.

(الومض)

هو سيولة فكرية للحوارات الداخلية ومكنونها في نسيج العلاقات بدء من عتبة النص/ العنوان/ (انتحار ميت) ومضة فكرية أخذت أبعادا ذهنية لتعبر عن مديات الوعي، وسيكون بمثابة الإنارة الكاشفة عن دواخل الشخصية، ودواخل النص/ الذات ـــ الموضوع/ ويسهم في نمو الأحداث خاصة عندما يكون الحوار الداخلي غير مباشر، الراوي هو من يروي الأحداث سعيا لإظهار الخصائص النفسية وكشف الحراك الاجتماعي والسياسي والديني بأسلوب اللذع.

عالم هذا النص مليء بالومض بدء من الإهداء إلى الشهيد الفنان (عبد القدوس قاسم)

من مواليد 1980 وهو ابن شهيد/ شهيد ابن شهيد/ وهذا هو ديدن الأحرار، والومض ربما يحتوي المشهد أو الموقف أو إحساس معبر استثمره (عدي المختار) لكونه يحتكم على جمالية عالية عبر التكثيف وسرعة حراك الجملة وانزياحها اللغوي مع الارتكاز على الإيحاء والترميز، المكان والزمان في هذا النص المسرحي لا وجود لهما، فقد حمل الزمان والمكان على بقع الضوء الملونة، مقومات اللون تعبيرية أكثر مما هي جمالية لها إمكانية التعبير، ولها القدرة الفاعلة لاستلهام الرؤية وتفعيل الأفكار وقابلية التنوع زمكانية/ زمن ـــ مكان/ وجدانية تكشف عن القيم الشعورية وزمكانية صدامية انفعالية تعبر عن فوضى رسمت ملامح الزمان والمكان.

وانتفاع النص المسرحي من الومض يبعده عن الركود إلى القوة والحركة المعبرة عن الفكرة، سرعة الانتقال من السرد الداخلي إلى الوصف/ الصوت/ الضوء/ تنوع الدلالات.

ـ قف.. (أصوات.. يهز راسه ويعاود القراءة بصوت أعلى) قف يا قلب وأعلن نهاية المطاف واترك لي جميع البقايا التي لا تمحى (أصوات تهز راسه ويصيح بصوت عال).. قف وكف عن اللهو (أصوات…) قلت لك قف ما عاد هناك متسع للهو إلا تراني (صوت بكاء طفل.. صمت يستدرك) قلت لك أكثر من مرة أني لا أرثك الدمع (يعلو صوت بكاء الطفل) كف عن البكاء… نعم… نعم فالحق معك وعدتك أن نلعب سوية.

التقاطعات والتحولات السريعة تعدد لنا قوة تأثير كل جملة لها قيمتها، كل إشارة لها دلالتها، إدراكا لمعنى الحياة نلاحظ قوة التعالق بين مفردة الأمر، قف وحركة البكاء، ليقابلها تفسير الكاتب عدي المختار بقوة الرفض، البكاء الانكساري رفض، والدرس الذي يشجع على الاقتتال رفض، واختيار فجوات التأويل لتفخيم الصراع رفض، التعليم السلبي رفض، لنصل إلى مرحلة تفضيل اللامعقول، ولا معنى بدل المعنى المخرب.

(بح صوتي وأنا أستفز يقظتهم النائمة)

العاطفة والموقف والتكثيف، توظيف اللغة لتفعيل الحوار الداخلي والذي يكون بطبيعته أكثر تأثيرا في المتلقي لأنه يعبر عن خلجات النفس

(هل وجعي مترف؟)

(النهايات يا صديقي، النهايات عاقبة تحدد صدق الوجع عن غيره)

لبحث عن آلية نقل المعنى، عبر التراكيب الجملية وشعرية الجملة تحفز الدلالات وتحدد العلائق التركيبية مما يبعث على المخزون الشعوري وعمقه ويكشف عن عمق المعنى.

أبكيك يا وطني؟ أم أبكي الراحلين فيك، أرثيك أيها الوداع المعتق فينا؟ أم أرثي وطنا يرثيك؟

بعض الومض عبارة عن تصريح، يكشف لنا عن بنية الموضوع، عن إثارة المتلقي، بأزمات النفس، الومض في المسرح ليس شرطا أن يحمل ما تحت العبارة، بل يحتاج إلى المباشرة في الكثير من الصياغات، فهو يتجاوز نظرية الدلالة عن قصد، يعمل على أكثر من جهة، (أذن فليذهب كل شيء، لأن ليس هناك متسع للترف، هذه الخشبة تبوح بالتأويل، وما عاد التأويل يسد رمق العويل، لذا ما يسده هو نزول عن خشبة التلميح، والصعود إليها بالتصريح)

وحتى هذا الإقرار فيه الكثير من الومض، ويشتغل النص على نثار وامض من الجمل

(التغيير قد أصلح ما أفسده الكرسي)

(ركبوا على ظهور أصواتهم وسرقوها)

(أسرار الحقيقة لا سوق لها هذه الأيام)

ومض الكاتب عدي المختار بأسلوب يبقي وحدة الموضوع على هذا النثار الومضي، وهناك الكثير مما تجاوزناه خشية الإطالة ليعبر من خلالها عن الضغط النفسي، ولتكون عبارة عن دبابيس تكشف ما وراء اللغة.

(الالوان)

يعد اللون وجها من أوجه التعبير الجمالية ويساهم بإثارة المتلقي ويعطي للنص قيمة، بقع الضوء الملونة في نص عدي المختار هي التي تحدد جغرافيا الممثل، وماهية بوحه، بمعنى أن تلك البقع هي التي تحدد المكان كونه متحركا والزمان كونه غير معلن للبوح.

بقع الضوء الملونة هي التي تحدد ماهية القصد والبوح، وهي دلالة على ثقافة النص أما بنية اللون لها عمق دلالي يعتمد على طاقة الإحالة.

(ورق أبيض يشبه معطفه الذي يحب ارتدائه)

ويميل الأبيض في العديد من الثقافات إلى مفهوم النقاء والبراءة ويترافق مع السلام والخير والتجدد وهو لباس الإحرام عند المسلمين وفستان الزفاف والكفن.

وللون إيحاءات لغوية قائمة على مزج دلالات ذهنية قادرة على الدخول إلى الوجدان الإنساني، المعنى الصاخب الضاج بالحياة، معنى الخاطر، ومضمون الأبيض ـــ الأسود في معارضة فكرية مع بيت شعري للمتنبي.

(لا تشتري العبد إلا والعصا معه***إن العبيد لأنجاس مناكيد)

سيل من الاستفهامات لتبدأ بعدها العاصفة

س: ـ من قال ثمة عصا للعبيد؟

س: ـ كيف يتدحرج هذا القول من فمك وأنت المتنبي؟

س: ـ كيف تنجس من أبصرت بهم الليالي ومنحتهم لون سباتها؟

س: ـ كيف تنجس من قلوبهم بعذرية البياض؟

س: ـ هل تعرف ماذا يعني أن تشعر بأنك تختلف عن الكل بلونك؟ (بوجع) هذا يعني أن ثمة شيئا في خاطرك يكسر.

الأبيض هو القطب النقيض مع الاسود، في زمن لا يرى البراءة إلا في الأبيض، والكوارث والويلات والإبادة الجماعية، هل كلها حصة الرجل الأسود، فلسفة عدي المختار في هذا النص أن لا تنظر إلى مثل هذه الموازين التي وضعها الإنسان لنفسه، الله سبحانه وتعالى ينظر للقلوب، ويتمنى الكاتب أن يتوحد لون القلوب ويسأل عبر هذا المرتكز هل ثمة الوان تميز الحب والحرب تبدأ فلسفة النص بالنقض أولا، بهدم أن يكون (الأبيض السلام… والأسود الظلام) غالبا ما يتشح الاستسلام والخنوع بالبياض ويعظم الحب والوفاء حزنا بالسواد.

يشير النص إلى مستويات متعددة من المعاني والقراءات في النظم اللونية الفاعلة في نص المختار، فهم الرمز اللوني باعتباره ارتكاز تحليلي لماذا العبودية تلتصق بالسواد؟ اليس فينا عبيد ببياض وجوههم وسمارها، عبيد الدنيا /عبيد الدينار/ عبيد نسائهم/ عبيد ملذاتهم/ عبيد الكرسي/ لكل لون ميزة/ وعندما تختلط الألوان تترك لنا مسألة للتخمين والدلالة والاستنباط، اللسان السليط هو المنطقة الحمراء تعني بفلسفة النص يمكن أن تكون سوداء.

وممكن أن تكون صفراء وتبدأ إحالة اللون الأخضر إلى المنطقة الخضراء، إلى التأويل السياسي، الألوان هي إحدى أدوات المعرفة العميقة لفهم البعد النصي على مستوى العبارة، والفكر لنتوصل إلى التصور الأسمى للمضمون المحتوى القصدي.

لكل كاتب رؤية ينطلق منها لرؤية الكون، رؤية الشهادة، وعدي المختار توسم الشهادة بشيء أكبر من الرثاء.

الألوان تعطي جمالا للحقيقة، فهو يجمع كل المشاهد التي يرسمها ببقايا الألوان على وسادته، اكتشف لنا مسالة خطيرة توهجت في ليله، رأى أن الأمس لا يملك ملامحا، في حال يتغنى المنكوب بوجع بالأمس، وكأن الأمس مزدهرا بالعدل والحق والنور!

فما بقى من الأمس لديه هو شريط أسود وتهمة نشر الأوراق الملونة ليلا، ليكشف لنا أن لا قيمة للألوان إذا توقفت عند حد الفرجة والتذوق بل لا بد أن تذهب إلى العمق الواقع، إلى الحياة.

(الرصاصة البيضاء تنفع في يوم أسود) ويستدرك عذرا هل هذه الرصاصة بيضاء كل شيء في الكون له لون وفهم الروح له لونا خاصا يعبر عن المشاعر، فهو بأي عين رأى الرصاصة بيضاء، وهو الذي قالها متهكما، لكن علينا أن نتبع إلى الفرضية ربما أن تكون كذلك لكون بسببها يتشح الكون باللون الأسود (كل شيء بات أسود إلا قلب أمي)

العقل له الوان جمالية عميقه، وكل عقل له مدركاته ليبصر المدرك من الوان المشاعر، كل إنسان لعقله رؤية لونية، وأعتقد أن من النادر أن يقدر الإنسان على أن يجمع كل الألوان بهذا الوجود، بمعنى أن اللون جزء مهم من خبرتنا الإدراكية المرتبطة بقدرة الأثر المرئي والأثر النفسي المعنوي.

(ولدت ويلفك بياض الولادة ورحت عنا بناصع الشهادة)

تعامل النص مع الألوان تعاملا تمتزج فيه المعرفة والعاطفة والمدلولات النفسية والمعنوية ومثلت المضمون الرثائي بالبياض الذي هو أساس الكون، وبين الومضات واللون يستشف الكاتب عدي المختار عالمه الفكري والفني ليصوغ لنا الإنسان في أسمى بياضه.

فتح الصورة

عدي المختار

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت