قراءة في الصيغة الأصلية لمسرحية “صفصاف” تأليف وإخراج علي عبد النبي الزيدي/ د. محمد لعزيز

مسرحية تقول: “حيّ على الحياة”
مقدمـــة
لا يستطيع الإبداع المسرحي أن يتخطى زمانه إلا إذا احتضن ما يعتمل في المجتمع الإنساني من قضايا وإشكالات، وما يمور فيه من أسئلة، وما يعلوه من صراعات وصدمات، وما يتهدده من مشكلات ومخاطر. وعلى المنوال ذاته لا تستطيع الذات المسرحية المبدعة تأمين حياتها ووطنها دون أن تعي نفسها، وتعي أدوارها المجتمعية. وهي في بحثها عن تطوير مجتمعها، وسيادة السلم الاجتماعي فيه، ودرء المخاطر عنه، لا بد لها من مواجهة الأخطار الداخلية، والتنبيه للأعداء المنظورين وغير المكشوفين، والتحذير من المنبثين في غفلة من الزمان.
بناء على ذلك تحاول مسرحية “صفصاف” أن تبني بمتخيلها الدرامي لحظات من حياة مجتمع عربي قد يكون العراق، وقد يكون أي دولة من وطننا العربي تشبه العراق وما أكثرها.
لا يتوفر وصف.
ملاحظات بصدد النص الدرامي وتيماته .
 كان تشيخوف يرمي في سلة المهملات الصفحة الأولى من كل قصة كلما انتهى من كتابتها، هو بذلك يحرر الموضوع من “الدوافع” ويتحرر من المنطق العقلاني، هكذا هو المؤلف (والمخرج في حالة صفصاف لأنهما واحد بقبعتين) لا يبحث عن المنطق وإنما يسعى رأسا إلى تطوير الأحاسيس  .
لقد افتقد نص صفصاف إلى مقدمات تدخل القارئ في موضوع المسرحية، إذ بمجرد ما تنفتح الخشبة ويبدأ العرض نجد أنفسنا أمام مقول نصي يحتاج إلى إعمال الفكر العميق، والذهاب به نحو تأويليات متطرفة للانفلات من شرك اللغة الدرامية التي كتب بها المؤلف “صفصاف” لنجدنا أما شريط أحداث يتزاوج فيه الماضي والحاضر، زواج شكّل دافعا قويا لبنينة الأحداث.
وما يؤكد ذلك بداية الحوار بالحديث عن الروح .يقول وحيّد مفتتحا الحوار:” ما معنى أن تصل روحك للرصيف بعدك بأيام؟”ويجيب سعيّد:” الروح تنام أيضا…روحي على العكس من روحك تصل للرصيف قبلي بأيام” في المسرحيات التقليدية غالبا ما تسعى إلى تبسيط مداخلها لشد انتباه المتفرجين، وضمان متابعتهم لها، بينما في مسرحيتنا تبتدئ بسؤال الروح، وكأني بها تطرد المتلقي الكسول وترغب فقط في أولئك الذين يملكون عيونا  يدركون بها عمق الخطاب.
المتلقي هنا أمام ذوات منشطرة، ظاهرها مختلف عن دواخلها، ما تتوق إليه تلك الأرواح، وتوده تلك النفوس ترفضه الأجساد، لذلك فهي إما تسبق إلى مبتغايتها، وإما تتخلف عن ما يسير إليه الجسد ويشتهيه. منذ البداية إذن يلمح الكاتب إلى غياب التوافق الانسجام بين ما تمشي إليه الشخصيات بمحض إرادتها، أو ما تساق إليه بالرغم عنها مع ما يعتمل في دواخلها. هناك بالتالي تعارض صارخ بين فكر وأحلام وأماني الشخصيات مع ما تفعله وتنجزه، لا غرابة أن يتوق المتفرج إلى شبكة أحداث وصراعات يمكن أن تحقق للعمل دراميته.
وقبل تعرف تلك الأحداث، وطبيعة الحكاية التي تلفها تجب الإشارة إلى أن مبدع نص”صفصاف ” علي عبد النبي الزيدي سعى منذ السطر الأول في النص ومنذ الجملة الأولى/الحوار الأول في العرض إلى  خلخلة النمط الفكري الكلاسيكي المتأصل في ثقافتنا، بالشكل الذي انطلق منه نص صفصاف سواء كان أسطوريا أو دينيا مثلما نجد عند “عنيّد” أو فلسفيا عند سعيد، وهو الفكر المبني على  الثتائية الميتافيزيقية المركزية: الروح والجسد، تحكمت الناحية المعرفية في كل الفكر المتصل بالإنسان والجسد، سواء كان تشريعا أو معرفة أو عرفانا”
ولأن الكاتب يعلم الطابع الملغز لهذه الثنائية فقد استحضرها في افتتاحية مسرحيته باعتبارها أولا: مدار الفكر العربي الذي ثم ابداع المسرحية فيه ومنه. وثانيا لارتباطها بالسؤال الميتافيزيقي عن أصل الوجود ومصير الانسان فيه، المصير المتراوح بين الجنة والنار في الدنيا قبل الآخرة  .
على امتداد العرض المسرحي يلاحق القارئ/المتفرج أحداثا لا تسير على نهج خطي، ولا تتطور في ممشى تقليدي، فهي تفيض في كل الاتجاهات، متجاوزا عن عمد الأبنية التقليدية في الكتابة الدرامية، ليكون أكثر تعقيدا تماما كما هي حياة شخصيات المسرحية، التي تحيا في مجتمع انهارت خلاله كل الايديولوجيات كما يفضح ذلك النص ذاته، لذلك ارتهنت الأحداث والشخصيات لرهانات زماننا المعاصر.
انطلاقا من هذا الرهان تعالج المسرحية شواغل ومشاغل إنسان صفصاف خصوصا، ومعاناته الحياتية التي كبلت تجاوزه لمختلف العوائق، وأرغمته على العيش في العوز والفقر والحروب التي لا تنتهي. ولهذا الأمر علاقة وطيدة بالفضاء الدرامي، ونظيره المشهدي دونما مرجعية جغرافية محددة. غير أنه يكشف انحياز المبدع جهة المظلومين والمقهورين والتعساء ضحايا أنماط التسلط وأشكال التعسف التي تعم كل جوانب الخشبة.
والمسرحية تتجاوز المظهر الانتقادي للواقع، لأنها ذات أبعاد سياسية أعمق مما يشي به خطاب الشخصيات. ونحن نقصد هنا قوة المسرح الكامنة في قدرته التوليدية على  إعادة إنتاج الواقع ورسم خرائطه المشروطة ثقافيا واجتماعيا مثلما هو حال الواقع العربي/ وواقع شخصيات صفصاف.
يقول وحيّد ” أسواق الورود كلها مغلقة تماما “
ويعقب سعيّد: هذه أول مرة أسمع أن عندنا أسواقا للورود”
وحيد: لقد وجدت هذه الوردة الذابلة في قارعة الطريق نظفتها من الغبار والطين ووضعتها في إناء الماء، قلت ربما تصحو قليلا من ذبولها
حميّد: وهو ينظر للمردة ولكنا ليست بوردة طبيعية  (ص:10)
بهذا المشهد يفضح الكاتب الواقع الذي تعبر عنه المسرحية، عالم لا ورد فيه، فأرضه يباب، أرض قفر، بلا ألوان، لاشيء غير التراب.. .
إلى جانب هذه الصورة حيث التراب والغبار، لا تخطئ الأذن والعين معا أجواء تطايرها في السماء، وأسباب طغيانها في أرجاء المسرحية يعبر عن ذلك حقل معجمي / دلالي يتمحور حول تيمة الحرب تتكرر فيه مفردات تتعلق بالقتال والقتل، و جبهة القتال والرصاص و التجنيد والجندية ولفظة الحرب التي ظلت تدور على ألسنة الشخصيات أكثر من مرة وطبول الحرب، ومواجهة الأعداء، فضلا عن آلاتها البندقية والمنجل.
لا يتعلق الأمر بمحاربين وسط معركة ولكن يتعلق الأمر بشخصيات من الشعب فهم جيران عاشوا الظروف نفسها، وينتسبون للبيئة ذاتها .
يقول حميّد: …سأذهب للحرب كي أقاتل الأعداء، ويضيف ..يوم أمس استلمت شهادتي الجامعية من كلية الآداب قسم الفلسفة سأذهب لحرب لكي أقاتل الأعداء بفلسفتي ومنجل أبي الفلاح”
ويقول سعيد: أنا عن نفسي لم تقبل زوجتي أن أذهب للحرب، وقالت أقبل بشرط أن أذهب معك للجبهة…”
ويقول حميد : وهو يشير لشخص هو فقط من يراه ما الذي يدعوك لقتلي؟
ويقول وحيد: إنك ياحميد كنت تسمع طبول الحرب في صغرك، وتؤكد لنا بأن كتبك المدرسية تدعوك لحمل السلاح ..” ويعقب حميد : …أن رجل مهزوم حتى لو عدت من الحرب منتصرا.”
هكذا إذن نكون أمام شخصيات خاضت غمار حروب متتالية ربما كانت سبب  السخرية من بعضهم، ومن آلاتهم الحربية خصوصا صورة بندقية بحجمها الطويل الممتد إلى عنان السماء التي كان يحملها حميّد وهو يستعد الذهاب لساحة الحرب، كل ذلك يفسر أسباب واقع الشخصيات في المسرحية التي عاشت أزيد من أربعين عاما في الحروب، لم تتوقف ولم تستطع الأضواء الخضراء أن لتجم حركتها فظلت تسير سيرها السريع لتقتل وتطحن كل من سولت له نفسه العبور إلى ضفة الآمان. وبعيدا عن كل إسقاط نرى أن العمل لم يرسم حقائق واقعية، ولم يؤرخ لمسار الحرب في واقع بعينه، لقد كانت المسرحية تفكيرا في هذا الواقع، وإعادة سؤال الهزائم والانكسارات ومرارة ما ترتب عن ذلك من إرهاب وخوف وتفريق الناس، وتشتيت الأرواح وغير ذلك مما يرمز له النص والعرض معا.
إننا نؤمن أن إعمال الفكر في قضايا الذات والمجتمع عن طريق الفن المسرحي كما في صفصاف لهو أعمق أثرا، وأبعد تأثيرا من كل الطروحات المباشرة بما فيها التاريخ نفسه.
لذلك نزعم  أن هذا العمل الفني لا يحاكي زمنه وحسب، ولا يعبر عنه فقط، وإنما يغنيه، ويشحنه بأبعاد رمزيةٍ تحرض الإنسان على تغيير واقعه، وتبديل عالمه، وضبط عقارب زمنه جهة حريته وكرامته، عن طريق ما يبث فيه من طاقة خلاقة بما يملكه من وعي بظروفه، وذلك عن طريق تبئير الوعي والإرادة وإدراك الحال والمآل.
لا يتوفر وصف.
مكون الشخصية في صفصاف
أشرنا سابقا إلى أن الكاتب تجاوز التطور الخطي للحكاية وأحداثها، واستعاض عن ذلك بتركيبات مشهدية (خمسة مشاهد) أسسها على رؤية فكرية استهدفت أفعالا عبرت عنها الشخصيات ببوح درامي، أبان بها كاتب النص عن قدرة تخييلية في تأثيث عالم “صفصاف” بخمس شخصيات تنبعث فوق الخشبة مندهشة تتأمل جوانب عالمها، فتسير وتتوقف، ثم تتابع المسير في أجواء سوداوية، خمس شخصيات تجمع بينها قواسم مشتركة كثيرة منها أنها تحمل أسماء مصغرة، أو طالها تصغير خالقها (المؤلف) وهي:
وحيّد (الملقب ب تعبان) كصفة لمن أصابته مشقة وكلل، وسعيّد، وعنيّد، وحميّد (أو سالم)، وصبرية الأنثى التي حمل ذكرٌ صورتها..
والتسمية التي لجأ إليها الكاتب لوسم شخصياته هي بالأساس مجال حرية الآباء هم من يختارونها، وهي إحالة على هوية، أو هي خلق لها، لتلتصق التسمية وتسكن المولود منذ مسقط رأسه. و”الاسم وشم يربط بين الذات والتسمية ولكل وشمة كنوزها وطاقاتها وكذلك آلامها وجراحها” لذلك كانت وراء كل عملية اختيار مرجعية ما، وتسمية الشخصيات عنده ترمز لعوالم كائنة أوممكنة، وتحيل على بداية ما، وتحمل في ثناياها مشروعا ومشروعية”كما يقول الانتروبولوجي عبد الله حمودي .
وفضلا عن ذلك يمكن الجزم بعروبة هذه الشخصيات فحميد اسم عربي بل هو من الأسماء المقدسة واسم من أسماء الله الحسنى هو محمود الصفات وحسن الخلق والسمعة، وسعيد اسم ذو أصل عربي يدل على الفرح والسعادة وهو ذو الحظ الحسن. ووحيد اسم علم عربي وهو المنعزل بنفسه والمنغلق عمن حوله والمنزوي وعنيد وهو امرأٌ صعب المراس.
ولأن شخصيات النص لم تبد أي اعتراض على تسميتها أو رغبة في تغييرها، فهذا يعني أنها تؤمن به وتستسلم لسوْقها وسِياقَتِها من قبل الكاتب نحو مصائر حددها مسبقا. والحقيقة أن الأمر يتعلق بصفات وليس أسماء مما يعني أن صاحبنا يرغب في أن يذوبها في أنماط إنسانية ليوسع من دائرة إبداعه.
إن المشترك الوصفي للشخصيات يجد صداه في اللغة العربية الدال على التحقير في المكانة والدونية في الحجم، والتقليل في القيمة، والقارئ لا يعدم في عمله التأويلي إيجاد مسوغات لكل معنى من هذه المعاني بالرغم من اختلاف رؤى الشخصيات الظاهرة فوق الخشبة.
في المشترك بينها أيضا نجد الأصابع المبتورة، التي أكلها أصحابها  بسبب الجوع وأسباب أخرى توحي بها الأحداث الدرامية ويوحي بها السياق. فوحيّد أصابع يديه مبتورة إلا السبابة، وسعيّد أكل أصابع قدميه اليمنى واليسرى. وعنيّد ولد دون أصابع أوأكل أصابعه قيل ميلاده. هي إذن كائنات تآكلت أطرافها وقُضمت ربما كانت من آثار الحروب التي خاضتها .
على خشبة المسرح تمشي تلك الشخصيات الهوينا وهي تبرر ذلك بكونها  تنتمي للعقد السبعيني :
يقول وحيّد : أنا في الخامسة والسبعين وستة أشهر من عمري الآن
ويرد سعيّد : وأنا أصغر منك بشهر وواحد وعشرين يوما فقط
ويقول عنيّد : أنا أقترب من أعماركم
ويقول حميّد: وللدقة.. أنا أكبر منكما بثلاثة أشهر وواحد وعشرين يوما كاملات  (ص:10)
تقول صبرية : وأنا متعبة وفوق السبعين من عمري كما تعرفون (ص:13)
أجساد متعبة جسديا ومنهكة نفسيا تنتمي كلها لجيل واحد، عاشت جميعها الظروف ذاتها جعلت منها بقايا كائنات وأجسادا ناقصة.
إن القواسم المشتركة المذكورة ملمح صريح للمتلقي ليتأكد أننا أمام أزمة جيل بكامله، جيل سعى الكاتب إلى تبئير واقعه، وفضح معاناته في محاولة لتجاوزها، والكشف عن أصلها ابتغاء الانفلات من رواسبها، ومن أزمات حاضرها .
تصور “صفصاف” إذن واقع شخصيات عجائز، وضائعة وتائهة بين متاهات واقع أهم مياسمه التسلط القاسي على أناسه بالجوع والحرب والقتل وكل ما يجعل معيشتهم ضنكا، والحائل دون تحقيق آمالهم .
ضراوة ذلك الواقع اختار لها المؤلف شخصيات ذكورية لأنها الأقدر على تحمل قساوة الوقائع الصعبة وقسوة المجتمع، والأقدر على مقاومة ومقارعة الزمن الصلب، والواقع الصعب. ولم تحضر المرأة رمز الضعف إلا في جسد رجل باسم صبرية بما هي صفة دالة على الصبر والجلد والاحتمال أو هي أنثى في لبوس ذكر خاب مسعاها في تغيير واقعها  ..
المهم أن تلك الأجساد المنهكة عبرت وجوهها الشاحبة عن دواخلها،
لا يتوفر وصف.
الملابس 
يصعب فرز مكون اللباس في المسرح عما يختلط به من ماكياج وقناع وشعر المستعار perruques أو pastiches  وحلي واكسسوار . كل هذه الاشياء يلبسها الممثل اثناء الاشتغال المسرحي. ومع ذلك فأثناء تحليل مكون اللباس قد يعثر المحلل ويفوز بمعنى أو بعض المعاني غير أنه سرعان ما يفقده/يفقدها حين يقسم أدوارها على مجموع العرض.
ومع ذلك يمكن الادعاء أن اللباس يمثل نافذة المتفرج على الممثل وعلى الشخصية التي يلعبها، عبره تحاك العلاقة الأولى معهما، والانطباع الأول عن المعنى، والمؤشر الأول عن الحكاية. إذ يطرح المتفرج جملة أسئلة على اللباس تكون مدخلا للفهم: هل تتوافق أو تتعارض مع المعطيات المادية الأخرى للعرض، فتتناسل العلاقات بين اللباس والوسط الاجتماعي أو المرحلة التاريخية أو مميزات الشخصية إلى درجة أن اللباس قد يحدد الجستوس الكلي للعرض أي علاقة الملابس بالعرض وبالمجتمع من حيث الشكل واللون وترتيبها، فالملابس وملحقاتها قد تخفي وضوح العلاقة مع المجتع، أو تطمسها، أو تناقضها، أو تزورها.
بالنسبة لملابس صفصاف فهي تكشف عن وضع الشخصية التي جعلها مغبرة وموحلة، إلى درجة غياب صفاء ألوانها، أو هي ألوان تكاد لا تبين، ولا جمالية فيها، هي إذن ملابس تلائم واقعا طاحنا، أو معركة خاضتها الشخصيات، بموجب غياب أناقتها وشياكتها. من ثم تنطلق عملية البحث في العرض عن مسببات أوضاع تك الملابس، وحالتها، ومدى انسجامها أو عدم اسجامها مع  المحكي الحواري، ولعل تيمة الحرب، وأوضاع أجساد الشخصيات تجلي طبيعة الملابس وأصاحبها، هي بدون شك ملابس معارك بأحداث عنيفة وصلت حد بتر الأصابع، أكثر من ذلك يمكن القول إن تلك الملابس كشفت عن أجساد وأسرار أرواح مرتديها، وعن قلقهم النفسي وأوضاعهم. فبقدر ما يحمل الجسد اللباس، يحمل اللباس الجسد، في صفصاف لم تتغير الملابس طيلة العرض ربما كان ذلك عنوانا على عدم تطور الشخصية،حيث ظلت على الوضع نفسه، اللباس هنا حافظ على هوية صاحبه، وعلى مواقفه ونمط فكره.
مكون الفضاء في صفصاف
تجري أطوار المسرحية في الفضاء العام، فضاء شوارع وطرقات ضيقة، فضاء منفتح بلا ديار ولا منازل ولا عمارات. وحدها طرقات تحفها أرصفة مصبوغة بالأبيض والأصفر، تقلص من رحابتها، وتمثل الحدود بين الراجلين والسيارات المسرعة، في زواياها ثبتت علامات تشوير مضاءة باللون الأخضر الخاص بمرور أنواع المركبات، ومنع الراجلين من تجاوز الرصيف، والعبور نحو الضفة الأخرى.
فعل المنع هذا قاس وقاتل لا يكتفي بتضييق الخناق وحصار العابرين بل إنه يهدد كل من سولت له نفسه ذلك بالهلاك والدوس أو القتل بموجب سرعة السيارات العابرة ومشروعية مرورها. ليصبح الضوء الأخضر تهديدا صريحا بالقتل، وحده الطوار  يحمي الشخصيات الراغبة في العبور، غير أنها هي أيضا تتحول إلى رقيب لبعضها البعض، فكل من أبدى جرأة للعبور، رفعت في وجهه لفظة مانعة تراوحت بين: هذا حرام، هذا انتحار، هذا قلة إيمان.. (ص:9)
إن يتميز فضاء المسرحية بالضيق والحجر على الناس وحجزهم في مساحة خانقة، أمر طارئ لم يكن كذلك قبل أربعين عاما، حين كان الفضاء رحبا منشرحا والنفوس مطمئنة:
يتساءل  سعيد:  ولكن لماذا  الرصيف ضيق هكذا؟
يجيب وحيد: أتذكره قبل أربعين عاما كان واسعا جدا
ويعلق عنيد: كان الرصيف يتسع لسجادة صلاتي وتسبيحاتي ودعائي وحي على الصلاة أو حي على الحياة.
إن تبدل حياة الناس من سعة الأفق ورحابته إلى ضيقه وانكماشه، هو ما حذا بمخرج المسرحية إلى صبغ الفضاء اللعبوي بالسوداوية طيلة مدة العرض، وليظل حيزَ تنقل الممثلين تحت ضوء المنع (الأخضر للسيارات ) فوق الخشبة شبه معتم تكاد لا تبين معالمه. تحولت معه تلك المساحة إلى فضاء رمزي وبلا حميمية. لأجل ذلك كانت الشخصيات تتنازع الأمكنة كل شخصية تخاصم الأخرى وتصرخ” هذا مكاني، لقد وقفت في مكاني”  هو الضيق الداخلي قبل المكاني، لا أحد مرتاح في هذا الفضاء الضيق الخانق.
ومع ذلك فهو فضاء يمور بحركة دائرية تتماوج خلاله مشاعر مضطربة، هو فضاء بين السماء والأرض لا غرف تحضن شخصياته ولا زوايا أو حيطان تأويهم، عالم مشرع لا أسرار فيه مفتوح فاضح لكل الحكايات والتحولات والهواجس، وبالرغم من أنه  عالم ضيق خانق لتطلعات الأرواح التي تعيش فيه، إلا أنها أرواح لا تكف عن الحلم والتمني والتطلع نحو أفق آخر باد للعيان، أفق منظور ظلت الشخصيات كلها ترنو إليه غير أنها كلما خطت نحوه باعتباره حلما عادت أدراجها محملة بالخيبات والنكوص.
ولكأن الزمان العنيد يجاهد كي تظل الهويات هي نفسها لا تتغير على امتداد أربعين عاما، غير أن شخصيات المسرحية  تصر على رفض واقعها، والثوق كي يعيد الزمن عقاربه إلى ما كانوا عليه، لتعيش استرجاعا إبداليا يستغور ذواتها وأزمنتها الجميلة التي كانت فيها الأرض أكثر رحابة و أكثر إشراقا ودفئا. وهذه الاستعادات للسالف من الزمان والمكان هي استعادة للذات بلحظاتها المنغرسة في الوجدان.
بين الوضع الحالي للمكان، ومحاولة الانعتاق منه والسفر نحو أفق آخر مغاير تترأى لسعيد وأصحابه بناية بيضاء، اعتبرت المكان البديل المتشوف إليه، المكان الأمنية، ولأنه كذلك فقد أضحى مكانا متعدد الهويات فهو مشفى في عين سعيد، وهو بيت الله ومكان الصلاة في نظر عبيد، وهو في نظر وحيد مركز البريد هي في كل الحالات الوجهة البهيجة المتطلع إليها. وهي (البناية) في كل الحالات أفق التحرر من أشكال اليأس والدمار المتوحش وسواد العالم مقابل بياض البناية البيضاء فيها الأفق المستقبلي لتجاوز الحال المنهك بسياسات قديمة حالت دون تحقيق السعادة الفردية والجماعية وتجاوز التعاسة والعبور للأفضل والأحسن والأجمل.
لا يتوفر وصف.
مكون الزمان في صفصاف
على امتداد مدة العرض المسرحي يتوزع خطاب الشخصيات بين أزمنة متقابلة، ماض مأسوف على انقضائه، عبر عنه حميد بقوله ( إن الرصيف كان واسعا جدا قبل أربعين عاما) ، أضحى اليوم زمنا تشتاق إليه شخصيات عاشت خلاله الشخصيات “الحياة”، بينما هو اليوم “غير ذلك.
وأما الزمن الحاضر الممتد فليس سوى زمن الحروب والمآسي والجوع، زمن جعل السعادة تغادر البلاد بسبب الدمار كما عبّر حميد، وحده الزمن الأغبر الجاثم على الصدور يحاصر فوق الرصيف، ويمنع كل تشوف إلى زمن جديد، وكل طموح نحو زمن آخر محلوم به يمثله انطفاء الضوء الأخضر. زمن منغلق دائري يقول حميد ملخصا أعمار أصحابه: “عمري كله انقضى على هذا الرصيف” ويجيب وحيد عن سؤال عدم أكل سبابته بالقول” تركته لكي أشتم به هذي الحياة التي شتمتني كثيرا”
في هذا الزمن الضيق لم يبق أمام الشخصيات غير شتم زمنها لأنه زمن تتعاقب فيه الكوارث فقد ماتت فيه الخطيبة، ومرضت الحبيبة، وأكل فيه سعيد أصابع يديه، ووحيد أصابع قدميه، وعانت صبرية معاناة كبيرة، هو زمن توالي الفقد والضنك والحرب والخراب.
ظل هذا الزمن الطاغي في العرض يجري دون توقف، زمن جارف أرغم الشخصيات على البقاء وراء الرصيف، يعيشون التوتر والإنهاك، هو بالخلاصة زمن تراجيدي لا مهادنة فيه، زمن ثابت يأكل من أجساد الشخصيات ويعصر ذواتهم في ركن من الرصيف عبرت عنه الإضاءة بالسواد كإطار يلف أجسادا متهالكة عاجزة ومسنة.
وما من زمن أمام تلك الشخصيات غير زمن افتراضي وحده سمح لهم بتشوف زمن السعادة، إن تحققت أحلامهم، لذلك وجدنا في ثنايا الخطاب المسرحي عبارات من قبيل “زمن الحياة”  أو  الزمن الحالم، غير أنه لا يعدو أن يكون زمنا شعوريا .
• في النص الدرامي حضرت الإرشادات التالية :” الوقت  ليلا وقد يكون نهارا”
“الثامنة بعد منتصف الليل” (ص: 8) الساعة التاسعة فجرا (ص:8)
ليس من تفسير لعبارات من هذا القبيل غير عدم اكتراث كلي بالزمن، أو هو تلاعب به ، إنها الأحداث التي تمر لا يهم متى كانت ومتى تنتهي، غير أنها أحداث تفرض نفسها، قد تمر في كل وقت أو أنها ستتكرر إلى درجة حضورها الدائم، لأن الواقع سوداوي الطابع فلم يعد يهم متى تكون الثامنة، ومتى تجري المسرحية ذاتها أليلا أم نهارا .
المؤثرات الصوتية 
ويمكن أن نضيف لأزمان النص /العرض بعض المقاطع الحوارية التي شكلت لوازم زمنية ظلت تتكرر معبرة عن تذكير الجمهور بضرورة استحضارها كل مرة بموجب دلالتها في سيرورة بناء المعنى النصي ونميز منها الالحاح على تكرار زمن “أربعين عاما”ولازمة صفارات القطار وصدى أصوات عرباته المزعجة والمخيفة  معبرة عن لحظات زمنية تذكر بالخيبات التي لا تتوانى ولا تتوقف حتى لكأن تلك الأصوات لازمة زمنية لواقع عاصف لن يهدأ كي لا تطمئن قلوب هؤلاء الذين يلتفتون كلما مرّ وأرعبهم .
إلى جانب تلك الأصوات تعج الخشبة بأصوات وصراخ وانفجارات وآهات وترانيم ورطانات وأجراس وصفارات جعل من الخشبة أصداء حيوات الشخصيات، وعبرت عن ما يعتمل في أحشاء تلك الشخصيات المتراوحة أنفاسهم بين الألم والأمل، بين واقع ناء بكلكه على أجسادهم الواهنة،و حروب لا تنتهي إلا لتبدأ، وموت وبكاء ..كل ذلك جعل زمن الخشبة إيقاعات صاخبة تصل حد الجذبة مادامت تختلط بمناحات تأتي من خلف الستار تعضدها حركات أجساد الممثلين وهم يرفعون أياديهم تارة، ويمشون منكسرين تارة أخرى، ويجرون أخرى إننا أمام سيمفونية عربية، وموسيقى سوداء إن جاز لي التعبير.
لا يتوفر وصف.
 
المؤثرات البصرية اللون
1- تتحدث بعض المرجعيات الراصدة لتطور الالوان عبر الحضارات البشرية أن هناك من كان يرى أن الأصل هو الأبيض والأسود قبل أن يتدرج ظهور الألوان والأصباغ،
2-  شكل البيت الأبيض والتطلع نحوه نقطة تقاطه بين السماء والأرض  هو بشكل ما تطلع نحو المقدس، ولأن الذائقة تتحكم في الألوان أنواعها وطبيعتها فإن البيت الابيض تجد فيها كل شخصية هندستها المأمولة فهي بيت الله، وبيت الحبيبة ومشفى الخطيبة والمركز البريدي كل ذلك يحيط به سواد الواقع وضبابيته.
3- الخشبة محاطة بسواد دامس وحدها علامات المرور الخضراء ما تشكل اضاءات الخشبة واما البيت الأبيض هناك فهو المنارة الهادية للطريق السوي للشخصيات انطلاقا من كون الأفكار هي أيضا ذات ألوان تماما كما هي المشاعر.
4- وإذا كانت الإضاءة هي التي تخلق الألوان فإننا نعتقد أن الدراماتورج قد تشاور كثيرا مع مصمم الديكور ومصمم الملابس ومصمم الإضاءة كي لا تمحو الاختيارات اللونية بعضها البعض، والسائد فوق الخشبة الوان ليلية كالأخضر الذي عم الخشبة، والألوان الباردة تثير الكآبة والحزن وغياب الألوان الحارة التي تذكر بالنار والشمس وغيرها من مصادر الدفء غائبة تماما مما يعني الابعاد والطرد في عالم يضيق بأصحابه  واما محيط الخشبة فقد عمه اللون الأسود كلون ليلي مخيف .
خاتمـــــــة 
قد توحي بعض فقرات هذه القراءة أننا أمام خطوط التماس مع واقع عربي ما، والحقيقة التي لا تحتاج إلى كثير كلام أننا أمام عرض مسرحي. فعلى خشبة المسرح لا شيء غير الفن والإبداع، وأما الحياة الواقعية فخشبتها تقف وراء أستار المسرح، وإذا ما نقل الواقع إلى الخشبة نكون أمام شيء آخر غير الفن.
هو عرض دو موضوع صادم يضع الإنسان العربي المعاصر أمام مخاوف من واقعه، بل وأمام مواجهته ومواجهة أزماته ابتغاء إيجاد حلول لواقع يمعن في قساوته، ويرغم ضحاياه على الامتثال المطلق له،.نحن إذن أمام مسرحية تنزف أسئلة عن الواقع والمآل ..
وإذا كانت القراءة المكتملة مطالبة بأن ترصد متمنيات القراءة فإني أعتقد أن العمل المسرحي العربي محتاج إلى فعل التخصص، والذي يعد سببا في تطور العمل المسرحي من مختلف الجوانب في هذا الصدد كنت أتمنى أن ينجز السينوغرافيا  مصمم مختص يقرا نص صفصاف قراءة عميقة يعضد الجهد المبذول من قبل الممثلين ومن علي عبد النبي الزيدي نفسه .. بل إني أعتقد أن نصا قويا من هذا القبيل يحتاج إلى التشكيلي الذي يدرك أكثر كيميائيات الألوان ويدرك عمق توترات الخطوط والاحجام باعتبار الخشبة فضاء مأهولا بالوجوه والأطياف واللغات والأصوات والأجساد ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت