تمثلات التوظيف الجمالي والدلالي في مسرحية “انا والمهرج”/ عباس لطيف  

يتعمق دور الفن والابداع في القدرة على التقاط وتمثل المضامين والاشكاليات التي يعانيها الواقع الانساني في كل مرحلة وعصر، وفق تعالق ومقاربات تجعل من الخطاب الابداعي مساهماً في تأشير الازمات والتناقضات والكشف عن بؤر التأزم والنكوص من خلال الاشتباك مع هذه الظواهر وتمثلها وصولاً الى رؤية تفصح عن الدلالات المعرفية والجمالية، وتأسيس منطق تجاوزي واستخلاصات في تعميق الوعي والرؤية الموضوعية المتوازنة، ووفق هذا التوجه يتعمق الجدل المنتج بين المحمول الفكري وبين التجليات الجمالية، ويتعمق ايضاً التلازم والتنافذ بين الشكل الفني والمحتوى الانساني المتقدم.

ويعد المسرح من فنون الابداع الادائية والتجسيدية لتَمثُل هذه المعادلة في خلق الابداع والاشتباك مع مشكلات وازمات المجتمع المعاصر، وتصبح المسؤولية والتوجه اكثر ضرورة واهمية حين يتصدى مسرح الطفل لمشكلات انسانية واجتماعية وواقعية ومحاولة الكشف عنها ورصدها وتقديم قراءة جمالية ودلالية ورؤية تؤدي الى وعي الظاهرة والتعبير عن طبيعتها وتأثيرها وتداعياتها، ويمكن الاستدلال على هذا التوجه من خلال الكشوفات والمخرجات التي تصدى لها وعبّر عنها عرض (انا والمهرج) تأليف واخراج الفنانة والاكاديمية الدكتورة زينب عبد الامير، ومن انتاج مؤسسة ارض بابل الثقافية في باكورة اعمالها ونشاطها الابداعي، وقُدّم العرض على خشبة مسرح المنصور في ساحة الاحتفالات الكبرى، وقد اتسم بالتصدي لموضوعة اشكالية ترتبط بهيمنة وطغيان الاهتمام بالأجهزة الالكترونية والالعاب ذات الطابع العنفي التي تستحوذ على اهتمام الاطفال بشكل كبير وشغف مخيف دون الوعي بتأثيراتها وتداعياتها السلبية المؤثرة في تشكيل الوعي والذات، والمخاطر الناجمة عنها على المستوى الادراكي والسيكولوجي والسلوكي، وهي دلالات تكشف عن عمق وخطورة واهمية المحمول الفكري والتصدي له بلغة واساليب المقاربة المسرحية الدرامية، وتقديم قراءة الكشف والتأشير وتأسيس بؤرة تعكس التشاكل بين المتعة والافادة الادراكية والذهنية من خلال استثمار علامات وإشتغالات وتقنيات مسرح الطفل لتقديم هذا المحتوى الاشكالي، وتلك هي اولى صعوبات هذا النوع من المقاربة التي تلامس حدود المغامرة وذلك لطبيعة المحمول الفكري والقدرة على تجسيده وتقديم رؤية جمالية منتجة ودالة، اذ يتطلب هذا الاشتباك قدرات ومساحة من ادراك طبيعة البؤرة المتأزمة والتعبير عنها درامياً وجمالياً وفق اشتغالات وفلسفة وتوجهات مسرح الطفل ووسائله وادواته.

كما ان خطورة خطاب مسرح الطفل تكمن في انه بحد ذاته مغامرة في الاكتشاف، ومقاربة تتطلب فهماً عميقاً بطبيعة التلقي عند الطفل ومحاكاة تكوينه السيكولوجي والذهني وامتلاكه لمخيلة وذاكرة انفعالية تتسم بالكثير من الاتساع والانفتاح الذي يصل الى ملامح المخيلة السريالية والتمركز حول اللامألوف واللامحدود في تشكيل الاشكال الذهنية وملامح التأسيس لمنطق يقترب من السحرية وتضخم الرؤى والبحث عن الدهشة والابهار والمغالاة في التصور لخلق نوع من التأسيس الذهني وتجاوز المنطق السائد وانساقه القارة، فمسرح الطفل قائم على خلق عوالم تحاكي هذه المخيلة والقدرات ومحاولة الاكتشاف عن طريق تجاوز المحاكاة الواقعية باتجاه تحريك وتأجيج المتخيل الصوري والإحالي وتوظيف اللعب والمتعة والكوميديا وجدل الالوان والاشكال المتشكلة على نسق الاثارة وتضخيم الشكل والبيئة وتوظيف المغالاة لامتلاك القدرة على التأثير والجذب وخلق التماهي السيكولوجي بين العرض ومخيلة الطفل الجامحة، وهذه المقاربات تبدو حاضرة في ذهن واجرائيات واشكال وتوجهات وتقنيات عرض (انا والمهرج) من خلال قدرة المخرجة على البحث عن مساحات جديدة ومبتكرة لمخاطبة عقل ومخيلة الطفل وخصائص التلقي عنده، وقد سعت الى التصدي لهذا المحمول الفكري والذهني والتربوي في تمثل المضمون واشاعة الوعي والحذر من ظاهرة الادمان السيكولوجي على ممارسة الالعاب الالكترونية والتعلق بها الى حد الهوس والتمركز حولها.

ان طبيعة المضمون النوعي دفع المخرجة الى وضع ملامح وحدود الحكاية التي تستوعب بناء منطق على مستوى الحكي والبنية الدرامية وزج اساليب ورؤى فنية وجمالية لتعميق مسارها التأثيري، فكان اللجوء والمغامرة بتوظيف البانتومايم وآليات الاداء التجسيدي الصامت والمسرح الاسود والدمى واستثمار الاغاني والرقص والاداء المرتبط بشخصية او كاركتر (المهرج) لخلق توليفة جمالية تمثل حجم التوازن بين الفكري والجمالي لتقديم عرض يمزج المتعة بالوعي، والكشف بالاستدلال، والعرض بالتأشير، والتوجيه ومزج الاداء الجمالي بأشكال التعبير عنه بالنسق التعليمي والخطاب الادراكي، واعتماد تقنيات ووسائل التشكل الصوري والنزعة البصرية ومزجها بلوحات الفرجة والنمط الاحتفالي، وتوظيف النسق اللساني والمفردات والدلالات القريبة من سيكولوجية التلقي للطفل، وتوظيف نسق الروي وتفعيل دور شخصية الراوية التي تحمل نسقاً غرائبياً (الجنية السحرية)، وذلك لان الطفل مولع بالشخصيات الغرائبية والاشكال التي تقترب من الشخصيات الخيالية المبهرة، فمخيلة الطفل على مستوى التلقي قائمة على خاصية الخيال الجامح المنفلت، وبذلك فان اي خطاب تقليدي قائم على منطق الواقع ودقته وقوانينه يؤدي الى قطيعة وعدم استساغة وانحسار التفاعلية مفترضة الوجود.

انطلاقاً من سيميائية العنوان بوصفه نصاً موازياً، كانت الإحالة الى شخصية المهرج وتأسيس باتجاه توظيف الكوميديا الهادفة والخفة والابهار في الشكل والالوان والرقص والموسيقى والحركات الجسدية المعبّرة والمثيرة ودمج اللون بالرقص والجسد بالإشارة وخلق عوالم متخيلة بقصدية الاثارة وتقديم الرؤية المغايرة، مع ان توظيف جماليات المسرح الصامت والمسرح الاسود والكوميديا واعتماد منطق الاشارة، كان بحد ذاته مغامرة بوجود توجّه وخطاب جمالي يُحسَب لرؤية المخرجة، وقد ادى هذا التوجّه الى اكتشاف مساحات وبؤر مبتكرة لتعميق الحس التجريبي، وقد وفِقَت المخرجة في كشوفاتها وفرضياتها الجمالية القائمة على تجاوز البنى والموروثات التقليدية المتناسلة والنزعة الكلائشية في مسرح الطفل، من خلال تجريب الاشكال والفرضيات الجديدة وغير المأهولة(غير المألوفة)، واستطاعت كسر حاجز التلقي من خلال استثمار اللحظة البريختية ومسرح السؤال، لان العرض قائم اساساً على بنية سؤال استفهامي وتحريضي، وقد ادى ذلك الى تفعيل المنحى التفاعلي والارتقاء بمستوى التلقي، ومحاكاة الطبيعة السيكولوجية للطفل، وولعه بالاشتباك مع الاثارة والجذب.

وقد سعى العرض منذ الاستهلال وصعوداً، الى خلق الاستقطاب الجمالي وتقديم نوع من الابهار والدهشة على مستوى الشكل باتجاه صياغة مشهدية سينوغرافية بصرية، فكان توظيف شاشة العرض الكبيرة وسط المسرح بوصفها علامة متصدرة، وتقديم علامة موازية اخرى دلالياً متمثلة بالصندوق السحري ووضعهما ضمن فضاء غرفة الشخصية المركزية (ادم) وذلك لخلق نوع من التوازي الذهني والبصري بين الواقعي والغرائبي.

وقد تعمق فعل التلقي بجمالية الصور التي عبرت عنها الاغاني والموسيقى الجميلة بايقاعاتها القريبة من سيكولوجية الطفل ومحاكاة المنطق السمعي والبصري والادراكي عنده، فكانت اشعار (جليل خزعل) تتمازج مع ايقاع وموسيقى المايسترو (علي خصاف) لخلق اجواء جمالية مرحة ودالة.

ووظفت المخرجة التشكيل الجسدي والدلالي لخلق فضاءات تعتمد المغايرة وصنع الدهشة من خلال مزج الالوان والاصوات وحركة الجسد في شكل تناغمي متوهج، وكشفَ الوعي الجمالي لديها عن توظيف الثنائيات المتضادة على مستوى الشكل والاحالة والاشارة، وتمثل هذا الميل باستثمار ثنائية اللونين الاخضر والاحمر في الاضاءة المسرحية للكشف عن التضاد الدلالي بينهما، فهذه الثنائية المتضادة تعكس صورة للمعادل الموضوعي بين ثنائية الخير والشر ، والجمال والقبح، والقوة والضعف، والمرئي والمدرك، والمزج بين اداءات متعددة اهمها المزاوجة بين مسرح الدمى والمسرح البشري، مما خلق نوعاً من التضاد الدلالي، كما ارتكز العرض على خاصية الاختزال في الحوار، اذ جاء السرد والروي لاستكمال البناء الدرامي وتحقيق صيغة الحكي الذي يمثل ضرورة لذهن الطفل ولم يكن سرداً فائضياً مجرداً، بل كان جزءاً من البناء المورفولوجي للعرض، والتناسب بين الحوار والسرد والعرض، وعكست اسماء الشخصيات نوعاً من السيميائية والدلالة، فاسم آدم يشير الى قصدية الانسان الباحث عن الحقيقة والاكتشاف تناصاً مع رمزية الاسم، وعبًر اسما فدعوس المجسد للشر، ومدعوس المجسد للخير والسلوك السوي، عن استثمار الاسمين وقربهما من لغة الطفل وغرابة التسمية.

ولا يخلو ايّ عرضٍ من بعض الملاحظات، اذ لا يوجد معنى الاكتمال المطلق، ومن الملاحظات التي لم تنقِص من جمالية العرض وتوجهاته بعض الاشارات الكاشفة في بداية العرض، وكان الصراع بحاجة الى تفعيل اكثر تجسيداً وقوة، كي نخلق نوعاً من الاقناع والتأثير المنتج والفاعل، ولم يتم استثمار الكتاب بوصفه علامة معرفية تحمل دلالة كبيرة، وقد شاب الاداء التمثيلي او التجسيدي لبعض الممثلين بعض الضعف مما ادى في لحظات من العرض الى خفوت الايقاع وسكونية الاداء، فكان بحاجة الى تفعيل وحركية اكثر ابهاراً ومغالاة وحيوية مع التركيز على ارتسامات وتعبيرات الوجه بالموازاة مع استثمار الجسد واداءاته.

ويبقى عرض (انا والمهرج) عرض يستحق المشاهدة ويستحق التأشير بانه عرض وظف جماليات المسرح بتعميق المعنى الكلي والتوجه المعرفي الذي ارتكزت عليه التجربة وافصحت عن توجّه حقيقي وجاد وبحث عن مساحات تجريبية وجمالية لخلق بؤر الاثارة والاستقطاب، والاشتباك مع مخيلة الطفل والتعالق معها، وقد سعت التجربة الى المغايرة المنتجة والدالة على مستوى متقدم في التأسيس والتجليات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت