قراءة في عرض مسرحية (الحُر)/ حبيب ظاهر حبيب
تأليف بابا عماد
إخراج أحمد نجم
قدم فريق دريم اكس بالتعاون مع مديرية تربية محافظة واسط وإنتاج فرع نقابة الفنانين عرض مسرحية (الحُر) الساعة الثامنة مساء يوم الثلاثاء 17/ 9/ 2024 على مسرح قاعة النشاط المدرسي في مدينة واسط العراقية، زمن العرض خمس وأربعون دقيقة.
منذ نشأة المسرح وهو يستلهم حكايات وأحداث وشخصيات من الأسطورة والتراث والتاريخ، والشواهد على ذلك كثيرة، منها (أوديب وگلگامش ومكبث والحلاج والمتنبي …)
شخصية (الحُر)
عنوان العرض ومحوره الأساسي شخصية (الحر بن يزيد الرياحي) التاريخية ، وهو من أبرز رجالات الكوفة وأحد أمراء الجيش في واقعة كربلاء، وقد ارسله (عبيد الله بن زياد) لمواجهة (الحسين بن علي) ولكنه رأى في نوايا ابن زياد الظلم والقتال الجائر مما دعاه تحويل موقفه من المواجهة إلى الموالاة وطلب التوبة، قال له الحسين (عليه السلام) لما التحق معه “انت الحر في الدنيا والاخرة” وقد أثار موقفه الكثير من الأدباء فكتبوا عنه القصائد والمسرحيات، منهم من عرض موقفه التاريخي كما هو، ومنهم من اقتبس الموقف وتعاطى معه برؤية متحركة مع الزمن واسقاطات معاصرة.
صورة السينوغرافيا
تشكل المنظر بصورته الاولية من حبال بلون حمراء تمتد من أعلى المسرح وتنزل إلى مقدمة ارضية القاعة وسواء كانت دلالة الحبال ايقونية فهي قيود او دلالة اشارة فهي تذهب بالمتلقي الى سيلان دماء، ام دلالة رمزية فإن التواءاتها تدل على مجموعة هائلة من الأفاعي. يضاف إلى الحبال قماش يتدلى من أعلى سقف المسرح ويمتد إلى منتصف الخشبة، يتكون من قطعة قماش سوداء وأخرى بيضاء معقودتان (مشتبكتان بعقدة كبيرة) من الاعلى ومفترقتان على أرضية المسرح، وقد تحركت قطع القماش من وضع ساكن في بداية إلى تكوينات متحركة مع حركة الشخصيات وأصوات الموسيقى والمؤثرات الصوتية. ساد على ازياء الممثلين اللون الابيض والاسود مع تنوع التصاميم التاريخية والمعاصرة، تميل الصورة الإجمالية للسينوغرافيا إلى التجريد وتكوينات من اللونين المتضادين (الأبيض والأسود) مع شيء اثارة الترقب تكوينات جديدة متحركة بفاعلية الأداء التمثيلي.
تكوينات صورة العرض
المضمر في العرض هي الفكرة التي انجلى ضباب غموضها في نهاية المشهد الأخير، ذلك أن الانكشاف التدريجي المدروس لمجريات العرض يحتاج كفاءة فنية حريصة على تدفق علاماتي يجعل أبصار الجمهور شاخصة على خشبة المسرح بفعل أسلوب إخراجي في توليد الاثارة والتشويق، فقد تركب العرض من مشاهد متفرقة دون تسلسل أحداث لحكاية تقليدية، ولا ينتمي أسلوب العرض إلى نوع درامي واحد لمدرسة محددة الاتجاه ايهامي أو اللا إيهامي، التنوع سمة اسلوبية في إخراج هذا العرض، إذ اشتمل المشهد الاستهلالي على مشهد صامت، منضدة في وسط وسط خشبة المسرح تجلس خلفها على كرسي شخصية (الكاتب) تقرأ وتكتب، تفكر وتتخيل: تدور حوله مشاهد صامتة (رجل يجلد آخر ويعذبه ، رجل يحقق مع آخر ، تعنيف اجتماعي) جسد شخصية الكاتب/ المفكر الممثل (علي ناظم) وجعلها متماهية مع المتلقي من خلال حضورها المعاصر وتفكيرها الذي استدعى شخصية (الحر) من التاريخ إلى الزمن الحالي. تحول المشهد إلى التاريخ عندما دخلت شخصية الحر وسط جموع من الرجال المقاتلين أصحاب الموقف المتذبذب بين مواجهة (الحسين) بالسيوف وبين الانضمام إليه ونصرته، ويحسم (الحر) رأيه بمغادرة معسكر الشر، والتوجه إلى معسكر عقيدة الحرية وصناعة السلام.
انتقل العرض إلى أجواء الواقعية النفسية الإيهامية في مشهد الحر مع أمه، لقد شعر بلحظة قلق وساورته ظنون، فاستنجد الحر بأمه لتدعيم موقفه وتقوية عزيمته وتعزيز شجاعته، ظهرت الام (لينا عبد الرزاق) التي مثلت الامهات كلها بروح ملؤها الهدوء والسكينة والوقار لتمنحه زخما وجدانيا ونورا عقليا، مع تأطير المشهد سمعيا بأغنية تراثية مسجلة وبقعة ضوء سلطت بعناية على منطقة التركيز الاولى في خشبة المسرح (وسط الوسط) مما أثار تفاعلا وجدانيا وتجاوبا من جمهور المتلقين حتى أن بعضهم علق بكلمات وصيحات الإعجاب مثل (الله … رائع) ختم المشهد بانطلاق وولادة جديدة للحر تجسدت من خلال مؤثر صوتي لطفل رضيع.
تجسد مشهد لقاء بن زياد مع الشمر بأزياء واكسسوارات معاصرة، فعل الشخصيات وانفعالهم تضمن إشارات على أنه لقاء شخصيات متنفذة وفاسدة تتآمر على المجتمع ، شغل المشهد ووسط ووسط خشبة المسرح – وفي هذا تكرار وتركيز على أداء معظم المشاهد في هذه المساحة مما جعل بعض المناطق مهملة – إلا أن أداء الممثل ( علي الدخاني ) والممثل (احمد نجم) وتمتعهم بمدى من الاسترخاء وقدرتهم على إيصال فكرة ظهور هاتين الشخصيتين بالشكل المعاصر مع تضمين أنهما شخصيات قادمة من عمق التاريخ ، لترسيخ وجودها في الزمن الحاضر.
(الحُر) مرة اخرى
أن تقديم شخصية (الحُر) بصورة تمتزج فيها ملامح التاريخ والمقولة المعاصرة مهمة تصدى لها الممثل (حيدر السيفاوي) بأداء اتسق صوتا وحركة، وشغلت فضاء الخشبة والصالة بحضور جمالي مؤثر، وانتقالات مشهدية وصلت ذروتها في المشهد الأخير على وفق احدى أبرز خصائص المسرح البريختي، حين عرضت صورة مغربة لشخصية (الحر) وكسرت طبيعتها المألوفة، وذلك عندما نزل الحر من خشبة المسرح إلى صالة جلوس المتفرجين، وخلع الحر عنه الأزياء التاريخية قطعة تليها قطعة اخرى، ووزع بعضها على عدد من المتفرجين ، وظهر بزي أقرب إلى التصميم المعاصر، وذهب إلى وسط الصالة موجها خطابا مباشرا إلى الجمهور وألقى بصوت حماسي خطبة مفادها (أن الحرية موقف)
حرص المخرج (أحمد نجم) على ترسيخ فكرة اهمية احتواء ومشاركة جميع الوان الطيف المجتمعي من خلال مفردة الكوفية والشماغ وأغطية الرأس المتنوعة الاشكال والالوان دلالة اشتراك الجميع في السعي لامتلاك حرية الموقف والاتجاه إلى الفعل الحقيقي.
عرّف (باتريس بافي) وحدة الفعل في معجم المسرح بقوله ” يكون الفعل الدرامي واحداً (او موحدا) عندما تنتظم كل الاحداث الثانوية مربوطة منطقيا بجذع الحكاية المشترك ” واستنادا إلى ذلك استخدم الاخراج السيوف السوط وقطع الاقمشة وتحولات الضوء والظل وتنوعات المؤثرات الصوتية وحوار الشخصيات وتكوينات أجساد مجموعة الممثلين في إنشاء فضاء متحرك دال على مضمون المشاهد يؤطرها جماليا ، وبانت وحدة الفعل الفنية والفكرية لعرض الحر بإيقاع منسجم ومتماسك، قدم علاماته بكثافة ووضوح مع الابتعاد عن الترهل والذهاب إلى حساب الزمن وتصميم الفضاء بدقة.
ينتهي العرض بتسليط على شخصية الكاتب – كما ظهر في المشهد الأول – في منتصف المسرح ويختم المسرحية بتمزيق الأوراق والتحريض باتجاه اللحاق بركب حرية (الحُر) وجميع الاحرار في كل مكان وكل زمان.
إشارة أخيرة
يتضمن عرض مسرحية (الحر) دلالة هامة على ان المسرح في محافظة واسط معافى بوجود المثابرين على العمل والحريصين على التواصل مع مستجدات الفنون في العالم.