ياسين الغُماري يكشف في خديعة الخديعة عن سردية حوارية تهكمية شديدة الحساسية/ عقيل هاشم
في خضم سردية تهكمية اعتمد الكاتب ياسين الغماري ومنذ المدخل لروايته على أن الكتابة الإبداعية (تعبير كتابي شخصي، يعتمد على الابتكار والخيال وليس التقليد)، وهو مبدأ يقوم على غايات الكتابة، ومحاولة ابتداع نص يقرأ التناقضات والوقائع، ويعمل على تمثيلها وفق جانب إبداعي قادر على بناء عالم مختلف يصنع ذاته وفرادته، فالكتابة هنا لن تتحقق إلا وفق محددات الابتكار والخيال،
يقدِّم الكتاب روايته الثالثة خطيئة الخطيئة منهجا قائما على التجريب في التعامل مع فعل الكتابة، بدءا من التخطيط الأولي للكتابة، باعتبارها فكرة قادرة على التشكُّل لحظة الإبداع إلى فضاءات تقنية – من ملامح الشخصية، إلى الوصف والحوارات، والعقدة. إنها محاولة الولوج إلى داخل النص، والشعور بالحدث، والتمثُّل به حتى يكون الكاتب جزءا من الحدث نفسه، الأمر الذي سيوصله إلى إيلاج القارئ إلى نصه بسهولة، ليكون النص منفتحا على تأويلات المتلقين، بل ومشاعرهم وتعاطفهم.
رواية “خطيئة الخطيئة” الاصدار الثالث للروائي التونسي ياسين الغماري والصادرة عن الدراويش للنشر والترجمة –بلوفديف بلغاريا
يقول المؤلف في الاستهلال : “رواية خديعة الخديعة، تندرج ضمن الرُعب الاجتماعيّ والرعب السياسي. تنحسر الأنظمة برواية خديعة الخديعة إلى لوائح هامشيّة شوهاء، قوى عارمة تُسيطر عليها، تتحكّم في أفراد وجماعات يكاد كل منهم أن يكون مجرّد رقم مفقود في الإحصاء، من يوفي بمهامه يخلّ بفعاليّتها ونزاهتها، حيث يستحيل الأمني إلى ترهيب، والطبيب إلى مُعذّب للمريض، والثقة إلى شُبهات متراكمة، والحارس إلى تجريم. الرواية عن حياة يسكنها الرعب جرّاء لانظام أنظمتها”.
عند الحديث عن الديستوبيا –مدن الخراب-، غالبا ما يذهب الكلام إلى الممارسات السيئة التي يتعرض لها مجتمع ما ,أن هذه الصورة، لم تمنع المثقف –الروائي الغماري -من أن يكشف لنا عن صورة عن هذه المدينة التي تعرض افرادها الى قساوة من يتحكم بهم، إلا أنها أيضا شكلت حواجز أمام حياة أولادها ومستقبلهم، وفي سياق روايته الثالثة والجديدة يحاول الغماري رصد تفاصيل من حيوات الناس داخل المدينة، لتكمل بذلك مشروعه النقدي كتابيا حول التاريخ الاجتماعي والثقافي للمدينة.
الرواية تمزج الواقع بالمتخيل، بما حفلت به من مكونات فنية قائمة على استرجاع الزمن وترهينه، باستناد حبكتها على تقنية ما هو محتمل، مشيرة بذلك إلى أن الفن الروائي المتحايث مع التخييل، يحيلنا إلى مسافة مفتوحة لرؤية التاريخ، لكن من منظار جمالي ذاتوي، بالتالي سينعكس ذلك على العلاقة التي تجمع بين النص الروائي والمتلقي، بمعنى الأخذ بالقارئ إلى منطقة يكون فيها قادرا على اتخاذ موقع المتأمل المستكشف، وحضور التاريخ هنا، لم يأت بمستوى واحد، فقد عمد المؤلف لتأكيد العلاقة معه على استثمار تقنيتي: الحدث التاريخي، وما هو محتمل أن يكون. فكانت نتيجة هذا الاشتغال التقني، أن خرج العمل الروائي عن سكونية التأطير الوثائقي، إلى فضاء سردي مُركّب امتزج فيه التاريخي بالمتخيل، إلى الحد الذي بات يصعب على القارئ الفصل بينهما، ويفرض عليه أن يكون متحفزا ومتيقظا، وهذا ما يحسب للمؤلف، لأنه تمكن من خلق بنية جمالية محرضة على التساؤل والتفكير، طالما تداخل فيها الماضي والحاضر، الواقعي بالمتخيل،
(نزل الطفل في مُؤخّرة السيّارة. لم تكن طُموحاته هي نفس طُموحات عصره. لقّنته “رنين” حبّ الكتابة والقراءة، لذلك يُريد أن يُصبح كاتبًا مُتخيّلًا. يُقارع الأشرار بالمُخيّلة. أمّا بقيّة الصّغار فلديهم إمكانيّة “الغُمّيضة” والسعي للتّواري الأبدي من الوحش الّذي يُلاحقهم. في حين كان الصغار يفرّون من الوحوش المُترصّدة بهم، على حدّ سواء العُبّيثَة أو كما يُسمّيها البعض بالغولة المًخيفة).
تعرض الرواية خطيئة الخطيئة لقطات من أحوال الناس اليومية وخلال حقبة معينة، أطلت علينا مثل قصص مؤلمة من ارتفاع ذلك المكان على مسيرات الزمان، لقطات واسعة قوافل البشر تسير مثل نمل في خطوط لانهاية لها، وفي لحظات تبتلعهم الأرض، ثم تقترب الرؤية وتغور في تفاصيل تلك المشاهد البشعة.
وهنا اثبت الكاتب الغماري من خلال تنوع نصوصه السردية شكلا ودلالة أن التجربة الروائية قد تحمل عدة محطات متنوعة لا تقبض على المعنى بشكل فوري ولا تتلقاه، بل تترك اللاوعي يبوح بما اختزنه من مؤثرات ومشاهد، وهو ما يؤكد على ان الكاتب يأتي قبل القارئ، لأن العالم المقصود هو من صنعه.
(يجب أن نتعايش مع أقل قدر مُمكن من الضرر في ظل هذا الخداع المُمنهج. لابُدّ علينا أن نتغابى وسط القطيع. وربّما يجب أن نتحاشى القطيع ذلك أنّه منشأ الحَاجَة السّالبة والقُصور. كما ثمّة بيوت شتّى خالية، وذلك من زوال أهاليها من الوجود، حيث كانوا بلا عائلة أو أقارب، فقد تلاشوا فجأة. أدلّل لكِ بالبيّنة العديد منهم لجأ إلى العيادات والمصحّات الخاصّة لإجراء عمليات طارئة، ولم يخرجوا. ماتوا أثناء أخطاء طبية وأُزيلت أعضاؤهم السليمة. خلّصت “ريماس” من القيل والقال جذِلَة، وفيما تُغلق الهاتف مسكونة بأماكن من الشُرور معَست الخيط الموصول بالكهرباء. مشفوعة بقهقهات لا تتمالكها. وباقة من الظلام..)
ويبدو لي أن هناك بُعدا إضافيّا، من الأبعاد الإيحائية في العلاقة بين العنونة خطيئة الخطيئة ومعطيات التجربة (المتن ). يتمثّل في نسقين، الأول: نسق التفاعل بين معطيات المشاهد المتنوعة والمتعددة سرديا نفسها، وفاعليته في إثرائها المطرد؛ إذ يتشكل من العلاقات ان كانت في مجال الطب او جميع العلاقات الانسانية ، التي تتخلّق من انتقالات التجربة بين أجناسها المتعددة. وبذلك، يمكن القول إن عتبة العنونة اتسمت بتعددٍ إيحائي ودلالي للعلاقة بين المهن الفاسدة والمواطن، أفضى إلى تجانُسِ الإحالةِ فيه على جوهرِ التعددِ والتنوع في التجربة، التي يقوم عليها اشتغال الرواية.
(تعزفُ الحكومات معزوفة قذرة، من أجل التسلية. لهم أن يرتكبوا أي شيء لحِيازَة قدرٍ لا بأس به من مُتعة تطلُّ على تحطيم طاغٍ. إذا كان بإمكان الجميع التفكير في الأمر مثلنا. متى يمرض أحدنا، يزلُّ الطّبيب في التّشخيص ونصعد نحنُ على متن سفينة أدوية لا نتمالك فيها تفكّك ما يحدثُ في جوهرنا. ينسجمون مع الأطبّاء لقتلنا بالعقاقير الّتي لا أساس لها نظير رحلات ومُؤتمرات وفوائد أُخرى. أنّى للطبيب أن يهبَ إيقاعًا مُطولًا من الأدوية المُغالطة دون أن يشعر المريض بالشفاء، ثمّ يحصل له اكتشاف سوء تشخيصه؟ )
هكذا نخلص إلى إن من أهم ما وصلت إليه هذه الرحلة من عالم الخطيئة والغاية التأليفية المُشار إليها، هو تقديم رؤية واضحة لما يجري على شعب ما ،من خلال سردية تهكمية مهمةٍ في تنوير القارئ، وتمكينه من استيعاب هذه التجربة،بجملةٍ من صيغ الحياة وتقاطعاتها الفاعلة، سردها كاتبها ضمن تأطير الاشتغال المعرفي والإبداعي والثقافي.
أن الرواية رسالة احتجاج ضد ماتتركه السلوكيات السلطوية على افراد المجتمع – السياسية والاجتماعية…الخ، فقد استطاع الروائي الغماري توظيف بنية سردية حوارية شديدة الحساسية تجاه مايحصل للافراد من قصص مؤلمة – الاستلاب والخداع والخطيئة وربما ذهب العنوان الى كشف تلك السلوكيات التي كانت سبباً في ضعفه ، وانحسار قوته، ما يحيلنا إلى أثر قيمة وفكرة الخطيئة في تكوين الافراد مستقبلا سلوكيا ، امام فئة طاغية همها الاول التعطش للثروة والسلطة.
ياسين الغُماري