قراءة في كتاب “حفريات في الفرجة الشعبية بالمغرب” للدكتور موسى فقير / د. محمد محبوب

مقاربة الفرجة الشعبية بالمغرب

بين الوعي السوسيولوجي والبعد التمسرحي

لاشك أن الحديث عن الأشكال الفرجوية ودلالاتها الرمزية وأبعادها التمسرحية يطرح إشكاليات متعددة تتعلق  أساسا  بموضوع التعامل مع التراث، ومحاولة استكشافه باعتباره مكونا أساسيا للوجود التاريخي و الحضاري للمجتمع المغربي، خاصة و أن حالة الانقطاع عن التراث التي عرفتها العهود السابقة ولدت اغترابا ناتجا عن الجهل بمكوناته و قيمه، و حمولته الفكرية و الجمالية (1) . وقد نجم عن هذا الانقطاع بروز رؤى تتسم بالضبابية والتعميم تراوحت بين رفض مستلب لهذا التراث  وارتماء في أحضان الآخر/ الغرب بذرائع العصرنة والتحديث، أو الإنغلاق المتزمت على الذات والتقديس الأعمى الذي يخلط بين العقائدي الثابت والفكري المتحول. ومن ثم، فإن الضرورة استدعت إعادة قراءة التراث، واستكشافه بوعي تاريخي و نقدي في أفق إعادة امتلاكه، و استجلاء مكوناته الحقيقية (2)، وإدراك الشروط التاريخية والسوسيوثقافية التي ساهمت في بلورته وإنتاجه، وهو رهان أساسي في هذا الكتاب. ولعل هذه الإشكالية تحيلنا على موضوع المنهج، وزاوية الرؤية للموضوع، وكيفية التعامل مع التراث باعتباره منجزا حضاريا للأمة الواحدة، لكنه لا ينفصل عن التراث البشري عامة، وهو منطلق أدركه بوعي يقظ الباحث د. موسى فقير الذي ألح على أن التراث المغربي والثقافة الشعبية المغربية تحديدا، باعتبارها موروثا ثقافيا وحضاريا تمتلك روابط تاريخية مندمجة مع التراث العالمي، حيث أن اشكالنا الفرجوية تتلاقح وتتفاعل مع الأشكال الفرجوية العربية والعالمية،  ورغم أن المقاربة المونوغرافية التي اعتمدها الباحث تقوم على دراسة المجال الواحد، وهو المتمثل في منطقة الغرب، ذلك أن المونوغرافية تخصص فرعي داخل الأنثروبولوجيا له علاقة بالإثنوغرافيا يقوم على الملاحظة المباشرة لوحدة اجتماعية مضبوطة، فإن الباحث تحرر من سلطة الانغلاق ليفتح الثقافة الشعبية بالغرب على بعدها الانساني. فالوجود الثقافي الإنساني بمنطقة الغرب – في تقديريه- يستمد مكوناته وعناصره من العمق الأنثروبولوجي للحياة البشرية ” فمنذ الوجود البشري على هذه الأرض، وعبر توالي القرون والأزمان …نتج عن هذا ظهور عادات وتقاليد وأعراف متنوعة. فهي و إن اختلفت في بعض جوانبها يبقى مصدرها واحد، يستلهم البعد الأنطلوجي والأسطوري و الروحي”(3). ولعل هذا الإنفتاح استدعى من الباحث رصد طبيعة التعالقات بين المكون الثقافي المحلي، ومحيطه الثقافي والفكري والجمالي والانساني. غير أنه استدرك مؤكدا على مبدإ الخصوصية في تشكل هذه التقاليد الفنية موضحا أن الأشكال الفرجوية الشعبية الموسومة بالملامح المسرحية تكون غالبا رافدا من روافد البيئة التي أنتجتها”(4). ومن ثم، فإن استبطان هذه الفرجات الشعبية، والوقوف على طرائق اشتغالها وقيمتها التراثية، وحمولتها الاجتماعية والجمالية والحضارية عامة، يستلزم التسلح بعدة منهجية تتجاوز البعد الاستكشافي الوصفي لتفكيك الأنساق الثقافية، والبنيات السوسيولوجية التي أسهمت في تشكيل الوعي الفكري والجمالي. وبذلك يكون الباحث قد أدرك قصور المقاربات السابقة  ومحدوديتها، واقتنع بضرورة الانزياح عن المنهج الاستكشافي الوصفي  المحكوم بيقينيات وتصورات جاهزة، وأحكام معيارية متكلسة، تنحاز أحيانا للتراث وتمجده، وتجعله مطية لإضفاء صفة التمسرح على الفرجات الشعبية، أو تلوذ بالحداثة الشكلية لإسقاط هذه الصفة عن  هذه الاشكال الفنية.

وهكذا، فان القارى المتأني لحصيلة الدراسات والأبحاث التي عالجت موضوع الفرجات الشعبية أو الظواهر الاحتفالية المسرحية المغربية ، يخلص إلى أن هذا المجهود ظل محكوما برؤية منهجية مرتهنة بمفاهيم مسبقة،  ويقينيات جاهزة أفضت إلى موضعة هذه الفرجات الاحتفالية الدرامية ضمن الأشكال ما قبل مسرحية أو الظواهر المسرحية الجنينية أو الإرهاصات المسرحية وغير ذلك من التسميات التي ظلت توسيمات ووصفات جاهزة بعيدة عن المساءلة والقراءة المتأنية و العلمية (5). ومن ثم، فإن قراءة هذه الفرجات الشعبية تمت في غياب قواعد مرتكزة على آليات التمسرح وقواعده، وبعيدا عن المنظور الأنتروبولوجي الذي يستحضر خصوصية نسق الفرجة، واندراجها في سياق ثقافة تتوفر على بنية لها خصوصيتها الجمالية، وأشكال تعبيراتها المتفردة، مما يستوجب معه إرساء تصور جديد للظاهرة المسرحية، يستحضر قواعد الفعل المسرحي، والشروط  والثقافية لإنتاج الفرجة .

إن توسيم الفرجات الدرامية الشعبية بتسمية الأشكال ما قبل مسرحية يمثل مفهوما معادلا للبدائية لما يحبل به هذا المفهوم من حمولة احتقارية، متعالية، وفوقية تعكس إدراك وإحساس الإنسان الأبيض باتساع البون  والمسافة الحضارية الفاصلة بينه وبين الرجل الشرقي. وهذه الخلفية يكشف عنها الحقل الأنثروبولوجي بجلاء ووضوح، حيث يحضر مصطلح ما قبل ضمن اتجاه المدرسة التطورية كمعادل لمرحلة أولية في تاريخ المجتمعات أي المرحلة البدائية، ذلك أن المجتمعات تتطور عبر سيرورة ومراحل. وتبعا لذلك، يمكن تصنيف الشعوب والمجتمعات بحسب مرحلة تطورها، مما يجعل المجتمع الغربي حقلا نهائيا للتطور. ولعل هذا التصور يفصح عن عقلية مشبعة بالتعالي، والإحساس بالتفوق، والتمركز حول الذات، وهي عقلية تنبذ ضمنيا الإختلاف والتنوع، وتكرس، منطق النموذج، ولا تنظر إلى الفكر والإبداع  باعتبارهما سيرورة  ومسارا من التطور تساهم فيه ، بأشكال مختلفة جميع  الأمم والشعوب (6).

وتأسيسا على ذلك ، وإدراكا من الباحث موسى فقير لهذه الخلفية التي تحكم الوعي المنهجي السائد سعى إلى بناء بديل منهجي يتجاوز الرؤية التقليدية في مقاربة الفرجات الشعبية والمنتوج الثقافي والتراثي الشعبي عامة، وهو ينخرط بذلك في سياق حركية منهجية ترمي إلى مقاربة الظاهرة التراثية، والشكل الفرجوي الشعبي باعتماد أطر معرفية ومنهجية مغايرة قائمة على مرجعيات أنثروبولوجية وإثنولوجية  وسوسيولوجية … في أفق القفز على اليقينيات والأجوبة الجاهزة بحثا عن إرساء منهجية بديلة، تؤسس لشعرية جديدة تراعي خصوصية تشكل الفرجة الشعبية، وآليات اشتغالها، والأنساق الثقافية التي أفرزتها، وساهمت في تشكلها. وهكذا، اهتدى إلى توظيف المقاربة السوسيوثقافية للقبض على الأنساق الثقافية، والبنيات السوسيولوجية التي ساهمت في تشكل الوعي الفكري والجمالي، وإفراز الظواهر الفنية، والمنجز الإبداعي الفرجوي الذي تمثل في مجموعة من الفرجات التي أنتجها المخيال والإبداع الشعبي بمنطقة الغرب، وأهمها الحضرة العساوية بطقوسها ودلالاتها الدينية وابعادها التمسرحية والفنية ، وفرجة عاشوراء، وحاكوزة، وتاغونجة، وفرجة العرس، والخيالة، وسلطان الطلبة، وفرجة العطار، وبوقيبور، وفرجة السبع بطاين، وفرجة بغيلة، وعرفة مايمونة، وفرجة خالوطة، وفرجة العيد الصغير، وعبيدات الرمى، وفرجة الحلقة، وغيرها من الفرجات التي أسهم الوعي الفكري والجمالي بمنطقة الغرب في بلورتها واحتضانها. وقد زاوج الباحث في دراسته لهذه الفرجات بين المقاربة المونوغرافية (7) والسوسيوثقافية. والناظم بين المنهجين كونهما ينتميان إلى مجال الدراسات الإجتماعية ،ذلك أن الأهداف الكبرى للدراسات الإجتماعية تتمحور أساسا حول دراسة الإنسان في محيطه الاجتماعي، والوقوف على طبيعة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، ودراسة نظم اشتغال المجتمعات. وعموما فإن هذا التصور المنهجي يسمح بمقاربة المجال، وهو المتمثل في منطقة الغرب، واكتشاف المنطق العام الناظم للتفاعلات البيئية وحدود تمظهراتها الفكرية والجمالية والفنية.

وعليه، فإن المجال الجغرافي ساهم إلى حد كبير في نشأة هذه الظواهر الفنية، فالعلاقة مع الأرض والموارد الطبيعية كالماء ولدت وعيا جماليا وسلوكا احتفاليا. لذلك، فإن المحيط الطبيعي، في تقدير الباحث، يجسد الموجه الأساسي للأنشطة الفكرية، والعادات والتقاليد، والممارسات الفنية، والتحققات الجمالية والإبداعية.  وإذا كانت قاعدة الوعي الثقافي تأسست في ارتباط بالمجال الطبيعي ،فإن النسق الديني، الذي يستمد مرجعيته من الزوايا و المساجد المنتشرة بمنطقة الغرب، ساهم هو الآخر في تشكيل البنية الذهنية، والوعي الفكري والجمالي بالمنطقة. وقد وقف الباحث على مجمل الأنساق الثقافية السائدة بمنطقة الغرب مسجلا أنها تتحدد في أنساق أسطورية، ودينية، واجتماعية، وتاريخية. وكل هذه الأنساق تستمد مرجعياتها من المجال الجغرافي أو المحيط الديني. فالمكون الأسطوري يمتح فعله من المجال الجغرافي، أما المكون الديني، فهو يستمد مادته من الثقافة الصوفية الحاضرة بقوة بمنطقة الغرب  ولعل هذه  الأنساق والمكونات هي التي ساهمت في إنتاج وبلورة السلوك الفرجوي بحمولته الثقافية والجمالية والدينية. ذلك ان هذه الفرجات تنطوي على رصيد ثقافي ثري وغني بكل المعاني التراثية والانسانية، وهي بالتالي تعتبر مرآة عاكسة لأنماط الوعي، وطرائق التفكير. إنها  تحمل رؤية الانسان الغرباي للكون، وتلخص نظرته للعالم. فهي ليست ممارسات وتحققات احتفالية عفوية، بل هي تعبير تشكل عبر قرون، وأجيال من الممارسة والإنجاز، يحمل أبعاده الفكرية، والثقافية، والجمالية، والحضارية عامة.

وهكذا، فإن قراءة واستبطان الفرجات الشعبية في هذا الكتاب استهدف الوقوف على السياقات التاريخية والاجتماعية والدينية دون التركيز الكبير على القيمة الجمالية لهذه الأشكال الفنية باعتبارها ممارسة تمسرحية محلية بخصوصيات لعبية تجسد المنظور الجمالي المغربي، والطابع المحلي الغرباوي الذي لا ينفصل  عن ضوابط التمسرح  ومقوماته، ومرجع هذا الاختيار المنهجي يكمن في اعتماد مقاربة سوسيولوجية تنظر إلى الظواهر الفنية والنصوص والخطابات ليس باعتبارها رموزا جمالية ، بل هي، في منظور هذه المقاربة، نسقا ثقافيا بحمولة اجتماعية وتاريخية وسياسية وأخلاقية، حيث ينصرف الباحث إلى استكشاف الأنساق الثقافية المضمرة، ودراسة السياقات، ويلغي من حساباته البنيات الجمالية  والفنية التي تحدد كينونة وجوهر العمل الفني، والظاهرة الفرجوية باعتبارها معطى جماليا قبل أن تكون حدثا اجتماعيا وثقافيا.

وإذا كان هذا التصور يرمي إلى بناء بديل منهجي، كما أسلفنا، وتجاوز الرؤية المنهجية التقليدية في مقاربة الظاهرة الفرجوية المسرحية للإنفتاح على أطر معرفية ومنهجية مغايرة تعب من مرجعيات مختلفة  انثروبولوجية وسوسيولوجية وغيرها. فإن العمملية تبقى محفوفة بمخاطر الانزلاق إلى النزعة الايديولوجية التي تضحي بالجوانب الفنية لصالح الحمولة الثقافية والاجتماعية، وتجهز على الخصوصية الفنية والجمالية للظاهرة المدروسة، خاصة إذا كانت هذه الظاهرة تنتمي إلى مجال الفرجة، وهو مجال فني وإبداعي بامتياز.

إن الأمر يستدعي، في تقديري، إرساء منهج يراعي الأبعاد التمسرحية للفرجة الشعبية، وينفتح فالآن ذاته على أطر معرفية قائمة على مرجعيات أنثروبولوجية وسوسيولوجية في أفق تاسيس شعرية تاخذ بعين الاعتبار خصوصية تشكل الفرجة الشعبية، وآليات اشتغالها، والأنساق الثقافية التي أفرزتها، وساهمت، في تشكيلها. كما أن هذا التصور من شأنه أن يؤسس لمشروع ثقافي طموح يعيد الاعتبار لثقافة الهامش ويعيد صياغة اسئلة الثقافة المغربية بمكوناتها  المتعددة  وفق رؤى منهجية متجددة وخلاقة.

ورغم هذه الملاحظات التي تفرضها سياقات المساءلة العلمية للمنهج الذي اعتمده الباحث، والتي لا تنقص من قيمة البحث وريادته باعتباره يشتغل على موضوع الفرجات الشعبية بمنطقة الغرب، فلا تفوتني المناسبة دون التنويه بالقيمة العلمية للكتاب ،وبالمجهود المبذول من طرف الباحث المقتدر د. موسى فقير الذي اقتحم بشجاعة نادرة، وجرأة علمية كبير موضوعا بكرا من خلال الحفر في ذاكرة الأشكال الفرجوية بمنطقة الغرب، رغم ندرة المصادر والمراجع، وشح الدراسات التي قاربت موضوع الفرجات الشعبية بهذه المنطقة . كما أنه تجاوز الرؤية الاستكشافية والوصفية التقليدية في مقاربة هذه الظواهر الفنية، واعتمد منهجا حديثا سعى من خلاله إلى القبض على طبيعة الأنساق الثقافية التي أفرزت هذه الأشكال الفنية انطلاقا من قناعة الباحث بأن المحيط والمجال الغرباوي بطبيعته الجغرافية ، وثرائه الثقافي، والروحي، والقيمي هو الذي ساهم بقسط وافر في تشكل هذه الظواهر الفنية التي تمثل جزء من الذاكرة المحلية، لكنها تبقى منفتحة على الذاكرة الجماعية المغربية،  والتراث الثقافي و الفني الإنساني عامة. فتحة تقدير لباحث متميز وجاد، ومزيدا من العطاء والبحث في مجال مازال في حاجة للتقصي والاجتهاد ، والدراسة العلمية والأكاديمية العميقة والرصينة.

 

هوامش:

1/ محمد المديوني “ مسرح عزالدين المدني والتراث”، منشورات المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، دار سحر  تونس، الطبعة الأولى 1992  ص: 26 ؛

2/  نفسه ص: 26؛

3/ موسى فقير “حفريات في الفرجة الشعبية بالمغرب. أنثروبولوجيا الثقافة الشعبية وأشكال الفرجة بالمغرب ،منطقة الغرب الشراردة بني احسن نموذجا ، مقاربة سوسيوثقافية “. منشورات الهيئة العربية للمسرح ، الطبعة الأولى2021  الشارقة ، الإمارات العربية المتحدة ص: 08: ؛

4/ نفسه ص : 08؛

5/ محمد محبوب  “التمسرح وتجلياته في الظواهر الاحتفالية المغربية”، منشورات الهيئة العربية للمسرح، الطبعة الأولى 2021 الشارقة. الإمارات العربية المتحدة  ص: 08 ؛

6/  نفسه ص 09؛

7/  نفسه  09؛

8/  MONOGRAPHIES  وهي كلمة مركبة من  منو  MONO أي الأحادي ،  وغرافي  GRPHIES أي الوصف .وتعني الدراسة التفصيلية اللأماكن والمواقع.

لا يتوفر وصف.

د. محمد محبوب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت